إنَّ معظم الأنظمة عبر التاريخ وليس (أمريكا) فقط؛ تسعى للبحث عن العدو الداخلي، وفي حال عدم وجوده تقوم الأنظمة بتخليق هذا العدو وذلك لتبرير القرارات
صناعة الأعداء والحروب الكبرى (2) | أمريكا وصناعة الصين
ماو تسي تونج |
أهمية صناعة عدو
يقول المفكِّر
الإيطالي "أُمبيرتو إيكو":
بعد انتهاء
الحرب العالمية الثانية وهزيمة المانيا، ثم اندحار الاتحاد السوفيتي في أواخر
الثمانينات، أصبحت الهوية الأمريكية في خطر
فكان لابد من إيجاد أعداء جدد؛ لتعزيز الشعور القومي وسلطته. ويرى أنَّ
وجود العدو هو مسألة بالغة الأهمية في مسار بناء الهوية، وإذا لم يكن العدو
موجوداً وجب البحث عنه وخلقه..
وجود الأعداء
في حياة الدول العظمى؛ هو أمر حتمي وضروري لا تستطيع دولة تريد أن تحوذ السلطة
العالمية بدون وجود عدو، فالأحلام الإمبراطورية
والسيادة لا تتحقق وسط حياة هادئة بلا أعداء، فطبيعة الشعوب تركن إلى الراحة والرفاهية
والكسل في حال عدم وجود عدو داخلي أو خارجي يهددها؛ لذلك تتوقف التوسعات الإمبراطورية
وتبدأ في الإضمحلال، والتاريخ مليء بقصص سقوط الإمبراطوريات في حالة عدم وجود حروب
كبرى وأعداء؛ لذلك كانت الأفكار التي بنت (أمريكا) عليها توسعها؛ هي خلق عدو بشكل
مستمر، فبعد خلق (المانيا) هتلر تحوَّلت إلى السوفيت، ثم بعد ذلك إلى الجهاديين الإسلاميين
في العالم، ثم إلى "صدام حسين" و(العراق).
وهكذا فإن مسار خلق الأعداء مستمر دائماً وأبداً
في العقلية والذهنية الأمريكية.
ويمكن تقسيم
الأعداء في التاريخ الأمريكي إلى قسمين: عدو داخلي وخارجي.
العدو الداخلي
إنَّ معظم
الأنظمة عبر التاريخ وليس (أمريكا) فقط؛ تسعى للبحث عن العدو الداخلي، وفي حال عدم
وجوده تقوم الأنظمة بتخليق هذا العدو وذلك لتبرير مختلف القرارات التي يتم اتخاذها
والتي قد لا تحظى بشعبية كبيرة.
وفي أثناء خلق
العدو الداخلي لابد من شيطنة الخصوم
السياسيين المنافسين المحتملين على السلطة، أو فئات اجتماعية بعينها، وهذا ما تراه
بعينك في الصراع الدائر بين الجمهوريين والديمقراطيين الأن ومنذ صعود "ترامب"
إلى عرش الحكم.
العدو الخارجي
ننقل لك مقولة الفيلسوف
الأمريكي "سام كين" وذلك لتتضح لك كيف تفكر النخب الأمريكية، وما يقبع
داخل عقلية (أمريكا) عبر التاريخ، فيقول "كين" عن كيفية صناعة العدو
الخارجي ورسم صورته في العقل الجمعي للشعوب:
أنه يكفي أن ترسم على وجه عدوك الجشع والمكر
والحقد والقسوة وغيرها من الصفات التي لا تتجرأ على وصف نفسك بها. قم بالتغطية على
كل ملامحه التي قد تجلب التعاطف معه، قم بمحو كل آثار الحب في نظراته، حوِّل
ابتسامته إلى تكشيرة قاسية، جرِّد عظامه من اللحم حتَّى تتركها ناصعة البياض، بالغ
في تصوير خطر كل سماته الإنسانية حتَّى يتحول إلى وحش قاتل، إلى حشرة ضارّة،
صوِّره كالشيطان بكل الأشكال الشريرة التي رآها البشر قط في كوابيسهم. عندما تكتمل
هذه الصورة في أذهان الجمهور، حينها يمكنك قتل عدوِّك وتمزيقه وتقطيعه إرباً إرباً
دون الشعور بالذنب أو الخجل، فالذي قمت بتصفيته ليس ببساطة سوى عدو الله.
كيفية صناعة العدو
اقرأ أيضاً: صناعة الأعداء والحروب الكبرى (1) | كيف تم تصعيد هتلر إلى السلطة؟!
أمَّا عن كيفية صناعة العدو الخارجي في حال عدم
وجوده وعدم قدرته على أن يصبح عدو حقيقي.. فقد ذكرنا ذلك في المقال الأول، واستعرضنا
كيف صنعت أمريكا (المانيا) النازية المنهارة والمنهزمة في الحرب العالمية الأولى،
وكيف صنعت "هتلر"، وكيف أوصلته إلى السلطة وقيادة الرايخ الألماني في
الحرب العالمية الثانية، والتي اجتاح فيها أوروبا وتسبب في مقتل قرابة 50 مليون إنسان، وكيف تصنع (أمريكا) الأعداء ثم
تقضي عليهم، وليس هم فحسب، ولكن تقضي على كثير من القوى والدول أثناء القضاء على
هذا العدو؛ لتنتقل القوى والثروة من تلك الدول إلى (أمريكا)؛ لتستحوذ على قوة وثروة
العالم تدريجياً، حتَّى انفردت بقيادة العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية
بالتساوي مع (الاتحاد السوفيتي)، ثم مع نهاية السبعينات بدأ نجم السوفيت في الإنطفاء
وبدأت السلطة والقوى العالمية تدنو من (أمريكا)؛ لتنفرد بقيادة العالم منذ نهاية
سقوط (الاتحاد السوفيتي) بمطلع التسعينات في نهاية القرن العشرين وحتَّى العقد الأول
من القرن الواحد والعشرين، وظن العالم أنَّ
السلطة العالمية ستظل في يد (أمريكا) إلى الأبد، إلَّا أنَّ سنن الله في خلقه
تدخلت، وظهرت قوى جديدة في محاولة لإعادة ميزان القوى العالمية مرة أخرى، إلى
طرفين وليس بقيادة طرف واحد؛ فظهر التنين الصيني على السطح منذ أن وقَّع اتفاقية
التجارة العالمية، وتم دمجه في الاقتصاد العالمي؛ ليتحول إلى عملاق مرعب من
الناحية الاقتصادية والقوى البشرية والعسكرية في غضون العشرين سنة الأخيرة، منذ اندماجه
في الاقتصاد العالمي ومنظومة النظام العالمي الجديد.
وفي هذا المقال نستعرض أسباب صعود (الصين)، وكيف صنعت (أمريكا) التنين الصيني كما صنعت (المانيا) النازية.
العدو الجديد
يقول "براهما
تشيلاني" مؤلف كتاب (الطاغوت الآسيوي):
مرت السياسة
الأمريكية في التعامل مع (الصين) الشيوعية بثلاث مراحل: في المرحلة الأولى، كانت (أمريكا)
تتودد إلى نظام "ماو تسي تونغ"، على الرغم من الحرب الكورية، وضم (الصين)
للتبت، وعمليات مطاردة الساحرات المحلية، مثل حملة المئة زهرة. وفي أثناء المرحلة
الثانية حل الجفاء والنفور محل التودد والمغازلة، حيث سعت السياسة الأمريكية طوال
القسم الأعظم من ستينات القرن العشرين إلى عزل (الصين). ثم بدأت المرحلة الثالثة
مباشرة بعد المناوشات العسكرية التي وقعت بين (الصين والاتحاد السوفييتي)، مع سعي (الولايات
المتحدة) بقوة إلى استغلال هذا الصدع في العالم الشيوعي لجذب (الصين) إلى استراتيجيتها
المناهضة للنظام السوفييتي. ورغم أنَّ (الصين) كانت بكل وضوح الطرف الذي استفز تلك
الصدامات الدامية على الحدود، فإن (أمريكا) لم تجد غضاضة في الوقوف في صف نظام "ماو".
ولقد ساعد هذا في إرساء حجر الأساس لانفتاح (الصين) خلال الفترة 1970 ،1971 والذي
صممه مستشار الأمن القومي الأمريكي "هنري كيسنجر" الذي كان حتَّى ذلك
الوقت على معرفة ضئيلة بشؤون الصين..
نستنتج مما سبق أنَّ
رفض نظام "ماو" التودد الأمريكي والتقارب في المرحلة الثانية من
العلاقات الأمريكية الصينية؛ هو الذي دفع )أمريكا( إلى
تفعيل المرحلة الثالثة.
تبدأ المرحلة الثالثة في العام 1966 مع بداية
الثورة الثقافية الصينية، وهي في الحقيقة ثورة بين الحرس القديم بقيادة "ماو
تسي تونج" والحرس الجديد بقيادة "زاو
ان لاي" و "دينج زياوبنج".
"ماو"
هو حارس الشيوعية القديمة.. الشيوعية الفكرية والاقتصادية صاحبة اقتصاد الحصار.
في حين أن"زوا إن لاي" و"دينج
زياوبنج" هم حرس النظام العالمي الجديد والليبرالية الرأسمالية.
ويكفيك من تعريف
الفريقين أن تفهم اتجاه كلا منهما.
الثورة الثقافية
وقعت أحداث
الثورة الثقافية بداية من مايو 1966، حين حدث الصراع على السلطة داخل أروقة الحزب
الشيوعي الصيني بقيادة "ماو" ورغبته في إكمال الأجندة الشيوعية
الاجتماعية والاقتصادية في (الصين)، في مواجة أنصار الليبرالية الرأسمالية الغربية
داخل الحزب.
لم يجد "ماو"
طريقة للتغلب على الجناح الليبرالي في الحزب، إلَّا بدعوة الشباب والطلبة إلى ثورة
البروليتاريا الثقافية الكبرى ضد
ممثلي
البرجوزاية داخل الحزب، وانضم الملايين من الطلبة له في هذه الثورة، وكونوا ما يُعرف
بالجيش الأحمر؛ دلالة على الشيوعية الخالصة، ووقعت المواجهات الدامية بين مؤيدي
الفريقين؛ قُتل فيها الألوف وعُذب الملايين واحترق الكثير من التراث الصيني القديم،
حتَّى وصلت إلى شفير الحرب الأهلية في عام 1968 واستمرت النازعات طويلاً في قصة
مريرة دامية.
وشهدت الأعوام
الستة التالية سلسلة من النزاعات المعقدة والعنيفة بين الفرق؛ حيث كانت كل مجموعة
تسابق من أجل الحصول على ميزة مؤقتة ضد الأخريات. تم قتل "لين بياو"، الخليفة الذي أختاره "ماو" مع أفراد من
أسرته، صعد "دينج زياو بينج" للسلطة، وتم خلعه، ثم عاد مرة أخرى.
إلا أنه لم يأت المَخرَج الحاسم من هذه الحلقة
من داخل الطبقة الحاكمة، بل من انتفاضة في الشوارع؛ كانت أهم تحدي للنظام منذ
تأسيسه انتفاضة (ميدان السلام السماوي) أبريل 1976، عندما شارك في (بكين) وحدها
أكثر من 100 ألف شخص في معارك نزالية مع البوليس وقوات المليشيات والجيش وحدث
القتل كالمعتاد والاعتقالات، حتَّى انتهت الأزمة وبحلول نهاية 1976 مات "ماو"،
وتم القبض على معاونيه المعروفين بعصابة الأربع، التي كانت تقود الدعاية ضد جناح "زي
بينج" وانتصر جناح "زي بينج" الموالي للفكر الرأسمالي الليبرالي
الغربي، وتم القضاء على شيوعية "ماو" لتبدأ شيوعية جديدة بثوب غربي..
والأن إلى سؤال
مهم؟
هل شعرت ببصمات أمريكية
في الثورة الثقافية الصينية؟ ألا تذكرك بثورات "أمريكا اللاتينية"؛ التي
اعترفت المخابرات الأمريكية الأمريكية بقيادتها في الستينات والسبعينات من القرن
العشرين؟! حسنا فكر في السؤال بنفسك وستجد الإجابة، ونكمل نحن سردنا..
استقرت الأمور
مع بدايات العام 1977 في (الصين)، ثم تلاه مباشرة توقيع (الصين) لمعاهدة السلام
والصداقة مع (اليابان) في عام 1978، وخلال زيارة للـ(ولايات المتحدة) عام 1979
تمكن من إعادة العلاقات معها، من هنا بدأت البصمات الاقتصادية الأمريكية تظهر داخل
التنين الصيني لتكبيره وتحويله إلى وحش اقتصادي جديد وعدو محتمل، بل جعلته العدو
المباشر الأن.
الاقتصاد الصيني قبل وبعد البصمة الامريكية.
ولن نسهب في
المقارنة والحديث، فقط سنرفق لك إحصائيات البنك الدولي الخاصة بالاقتصاد الصيني في
المرحلة الثانية من العلاقات الأمريكية الصينية (مرحلة ماو) المسماة بفترة الثورة
الثقافية الصينية، وفي المرحلة الثالثة (ما بعد ماو) (التحرر الاقتصادي وسياسات
الإصلاح).
انظر الشكل التالى:
احصائيات اقتصادية |
تلاحظ الموت
البطيء لنظام "ماو" وسياسة العزلة الاقتصادية التي فرضتها (أمريكا) على
نظامه اقتصادياً، وأيضا الاضطرابات التي قادتها ضده سياسياً.
انظر الشكل التالي:
ما هذا الذي حدث
في الصين بعد البصمة الامريكية ؟؟
بعد هذا الاستعراض
السريع للاقتصاد الصيني، ومن قبله الوضع السياسي في المرحلة الثانية والثالثة من
العلاقات الصينية الأمريكية،
وقد وضحت الصورة
ولو قليل عن كيف صنعت (أمريكا) عدوها الجديد (الصين)، في نفس الفترة التي كانت
تقضي فيهاعلى عدوها (الاتحاد السوفيتي) في ترتيب للأحداث القادمة وخلق الأعداء
المستمر.
وللحديث عن كيفية التعامل مع هذا العدو بقية إن شاء الله..
COMMENTS