(دون كيشوت) رواية لها من الأهمية أنها قَسَّمت تاريخ الأدب لما قبلها وما بعدها.. هذا العمل عن فراغ الإنسان، وعن معارك طواحين الهواء التي لا تنتهي.

دون كيشوت | مصارع طواحين الهواء الذي وُلِد من رَحِم صراعات الحياة

 (بقلم / عطار نيسابور)

دون كيشوت وطواحين الهواء

روائع غيرت مسار الأدب

يُقال أن روائع الأدب العالمي أربعة هم الـ أفضل على الإطلاق؛ (الإلياذة) لـ"هوميروس"، و(الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي"، و(فاوست) لـ"جوته"، و(دون كيشوت) أو (دون كيخوت) لـ"ميغيل دي ثيربانتس".. إنهم أعظم الأعمال الأدبية التي غيرت مسار الأدب.

سنتحدث هنا – في هذا المقال - عن الرائعة الرابعة من هذه الـ روايات.. رواية (دون كيشوت Don Quixote)، وعن مؤلفها "ميغيل دي ثيربانتس Miguel de Cervantes"..

(دون كيشوت) رواية لها من الأهمية أنها قَسَّمت تاريخ الأدب لما قبلها وما بعدها، كما أن الصفة السائدة في هذا العمل هي السُخرية و التَهَكُّم المُستَمِرَيْن على مدار أحداثه..

هذا العمل عن فراغ الإنسان، وعن معارك طواحين الهواء التي لا تنتهي.

ميغيل دي ثيربانتس

وُلِد "ميغيل دي ثيربانتس" عام 1547م بقلعة (هنارس) في إسبانيا، وأمضى كامل طفولته في مدينة (بلد الوليد)؛ حيث عمل  والده طبيبا جرَّاحًا، وكانت دراسته عند اليوسوعيين في إشبيلية، ويُقال أنه دَرَس بمدينة (مدريد) لمدة قصيرة من الزمن.

 

بعد انتهاء فترة الطفولة، ودخوله في سن المُراهقة؛ تحوَّلت حياة الكاتب والشاعر والمسرحي الإسباني "ميغيل دي ثيربانتس" لحياة تعيسة بائسة؛ حيث اضطُر إلى الهرب إلى إيطاليا في هذا السن الصغير، وذلك بسبب مُبارَزَة وقعت بينه وبين أحد الفرسان، حُكِم عليه بعدها بالنفي لمدة عشرة أعوام، كما حُكِم عليه بقطع يده اليُمنَى، لكنه فرَّ هاربا قبل تطبيق الحُكْم.

تعلم "ميغيل دي ثيربانتس" اللغة الإيطالية في هذه الفترة، واستطاع أن يقرأ لكبار الكُتَّاب الإيطاليين، وتأثَّر بعددٍ منهم عندما أراد كتابة رائعته (دون كيشوت) لاحقا.. كما تأثَّر كثيرا بالحُرِّية المُطلَقة في ذلك العصر (عصر النهضة)، وأُعجِب كثيرا بالحياة في إيطاليا وفنونها وآدابها الكثيرة.

 

توابع معركة ليبانتو البحرية وأثرها على ميغيل دي ثيربانتس

معركة ليبانتو البحرية

في العام 1568م، وبسبب ديونه، التحق "ثيربانتس" بالتجنيد، واشترك في معركة (ليبانتو) البحرية التي وقعت بين الأتراك من جهة، وبين الأوروبيين من الناحية الأخرى.. انتهت هذه المعركة بهزيمة الأتراك، وكانت من أسباب وقف تمددهم بالبحر الأبيض المتوسط..

في هذه المعركة فقد "ميغيل دي ثيربانتس" القُدرة على استعمال يده اليُسرَى، لكنه لم يفقدها تماما، وقد ظل فخورا بهذا الحادث طيلة حياته، وكتب فيه الأشعار والقصائد..

بعد ذلك؛ وفي طريق عودته إلى بلاده بإسبانيا؛ وقع أسيرا في أيدي الأتراك، وظل سجينًا في الجزائر طيلة خمس سنوات طوال، لكنه حاول فيهم الهرب أكثر من مرة، لكن باءت جميع محاولاته بالفشل، إلى أن تم دَفْع فِدية مقابل خروجه من الأَسْر.. كان ذلك في العام 1580م.

شكَّلَت فترة الأسر هذه واحدة من أهم المحطات في حياة "ميغيل دي ثيربانتس"؛ حيث تعلَّم اللغة العربية، ويظهر هذا الأثر البالغ عند حديثه عن مدينة الجزائر طويلا في فصول روايته الأشهر (دون كيشوت).

بعد إطلاق سراحه؛ عاد "ميغيل" مباشرة إلى بلاده بإسبانيا، ولكنه عاش هناك حياة أخرى بائسة؛ حيث تزوَّج زيجة غير مُوَفَّقة، وخسر وظيفته التي حصل عليها، وكان منبوذا في الأوساط الأدبية وغير مُعترَف به ككاتب أو شاعر أو مسرحي.. حتى بعد كتابته لـ (دون كيشوت)؛ لم يستطِع توفير المال اللازم لحياة كريمة، وعاش مُتَرَدِّدا على السجون؛ إلى أن مات وحيدًا بائسًا.. كان ذلك في الثالث والعشرين من أبريل عام 1616م..

ترك "ميغيل دي ثيربانتس" خلفه الكثير من المؤلَّفات والمسرحيات والأشعار، لكن لم يتذكَّر التاريخ منها جميعا أي شيء؛ باستثناء رائعته العظيمة (دون كيشوت).

بداية عصر أدبي جديد - دون كيشوت Don Quixote

استغرقت هذه الرواية من مؤلفها مدة طويلة؛ وصلت إلى خمسة عشر عاما؛ وذلك لإتمام كتابته ونشره، وقد واتته الفكرة عندما كان أسيرا بالجزائر.. علينا القول أنه إذا ذُكِرت شخصية "دون كيشوت"؛ لا يليق إلا أن نربط باسمه شخصيات على طراز "برومثيوس"، و"فاوست"، و"دون جوان"، و"هاملت".

كَتَبَ "ميغيل دي ثيربانتس" هذه الرواية بدافع السُخرية من كُتُب وروايات الفروسية المنتشرة في ذلك العصر؛ بما فيها من مُبالغَات غير واقعية أراد تحطيمها على صخرة الواقع، كما أراد تحرير الناس من سُلطانها وأوهامها.. وقد نجح في ذلك؛ حيث اعتُبِرت رواية (دون كيشوت) بداية لعصر جديد من الروايات البعيدة كل البُعد عن الشكل الفروسي التقليدي القديم.

يقول "ميغيل دي ثيربانتس" في كتابه:

وكان هدفي هو أن أجعل الناس يكرهون القصص المُفتَعَلة الخيالية التي ترويها كُتُب الفروسية، والتي بدأت بفضل قصص (دون كيشوت) أن تنهار، ولابد أن تسقط في النهاية

الأدب الذي كسر البطولات المزيفة

هكذا جاءت رواية (دون كيشوت)؛ تسخر من البطولات الغير حقيقية للفروسية والفرسان، كما سخرت من النفاق والعدالة الزائفة؛ فكانت روايته هذه مرآة للعصر بكل فضائحه وادِّعاءاته؛ في إطار كوميدي ساخر، بعيد عن الحُزن والكآبة.

الفارس وطواحين الهواء

دون كيشوت وخادمه سانشو

أما عن حكاية "دون كيشوت" نفسه؛ فهو في الكتاب اسم شخص جاوز الأربعين أو ربما الخمسين من عمره؛ يعيش في مُقاطعة (لامنشا)، وينتمي إلى الطبقة المتوسطة..

"دون كيشوت" ينظُر إلى حياته في هذا العالم؛ فلا يجد فيها شيء غير الانغماس التام في قراءة حكايات الفروسية، إلى أن يشعُر بالملل في أحد الأيام، ويقرر ارتداء درعه وخوذته، وبصحبة خادمه "سانشو" يخرج في البحث عن مُغامرة وبطولة حقيقية تليق بالفرسان عوضًا عن القراءة..

يخرج "دون كيشوت" في مغامرة طويلة يقوم فيها بدور البطولة، وفي مخيلته أنه يستطيع الانتصار للبشرية؛ فيقوم بـ معاقبة المجرمين، وينصف المظلومين، ويحقق العدالة، ويُصَحِّح جميع الأخطاء..

وفي هذه الرحلة؛ يواجه "كيشوت" الكثير من الأحداث والشخصيات، في مغامراته التي صارع فيها طواحين الهواء، فحطَّمَت له كل أوهام الفارس التي توَلَّدت في ذهنه، بسبب تشبُّعه بالقصص والحكايات التي قَرَأها في كُتب أدب الفروسية القديمة.

اقرأ أيضا: نجيب سرور | الإمام الناطق في الكتيبة الخرساء