كانت مخابرات "صلاح نصر" في هذه الفترة لا ترحم أحداً، فنزل "نجيب سرور" ضيفا بمعتقلاتهم مُكرَّماً بالصفع والضرب وسائر أنواع التعذيب.
نجيب سرور | الإمام الناطق في الكتيبة الخرساء
(بقلم
/ عطار نيسابور)
نجيب سرور |
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى.. إني أخاف عليكمُ أن تلتقوا
نجيب سرور- أول مرة
في بداية سن
المراهقة، استمعت لأول مرة لقصيدة بذيئة لا أجرؤ على ذكر اسمها، لشاعر يدعى
"نجيب سرور" بمحض الصدفة، ومع كل كلمة كانت تخرج من فمه كانت تنتابني
نوبات من الضحك الهستيري، وما لبثت أن أخبرت جميع أصدقائي بهذه القصيدة حتَّى نضحك
سويا.
مرت الأيام ونضجت
أكثر، وتوغلت في عالم الأدب وعرفت من هو الراحل "نجيب سرور"، وقرأت دواوين شعره وعرفت ما
تعرَّض له من ظلم واضطهاد سياسي وتعذيب..
"نجيب سرور" الشاعر اليساري المصري والمخرج المسرحي
والناقد الأدبي، صاحب ياسين و بهية، بروتوكلات حكماء ريش، التراجيديا الإنسانية،
وأفكار جنونية في دفتر هاملت، ومنين أجيب ناس لمعاناة الكلام يتلوه؟!!
نجيب سرور الذي قال
يوما:
في ألفاظك اعرف
نفسك ! الألفاظ لها ميزان . ثمة لفظ قد يكسبك العالم لكن .. تخسر نفسك ! ثمة لفظ
قد يفقدك العالم لكن .. تكسب نفسك ! زن ألفاظك تعرف نفسك .
من يصدق أنَّ كاتب
هذه الكلمات؛ سيكتب بعدها بعشرة سنوات فقط سيكتب قصيدة أميات أشهر قصيدة بذيئة في
الوطن العربي؟! ربما كتبها ليكسب نفسه حتَّى لو أصبحت هي عمله الأشهر، ولا يذكره
الناس إلاَّ بها، بالرغم من أعماله الكثيرة العظيمة.
أدركت حينها فقط
المعاني الحقيقية لقصيدته البذيئة، من يومها لا أضحك أبدا أثناء الاستماع إليها،
وأشعر بالضيق إذا ما وجدت من يستمع إليها للضحك.. فلم تكن هذه القصيدة إلا حشرجات
ألم ومعاناة ومرارة خرجت من صدر شخص فقد كل شيء؛ فكانت هذه طريقته في الإنتقام.
فمن هو نجيب سرور؟!
نشأة نجيب سرور
فى قريتي "إخطاب "
حيث الناس من هول
الحياة
موتى على قيد
الحياة !
وُلد "محمد
نجيب محمد سرور هجرس" في أسرة فقيرة بقرية إخطاب، مركز آجا، محافظة الدقهلية
عام 1932.
كانت أسرته تجني
قوت يومها من الزراعة وتربية الدواجن، وكان التعليم غير متوفر لمعظم سكان قريته؛
مما زرع بداخله أول بذور التمرد، والمناداة بالعدالة الإجتماعية..
عُرف "نجيب
سرور" بإحساسه المرهف وإنسانيته؛ فاهتم كثيرا بالشعر والفلسفة والأدب
والتاريخ خلال مرحلة الدراسة الثانوية، فعشق إمام الكتيبة الخرساء "أبي
العلاء المعري" وكتب ديوان (لزوم ما يلزم) لاحقاً لتأثره الشديد به، حتَّى
أنَّه لُقِّب بـ(شاعر العقل) و(الفارس)، كما تأثر كثيرا بشخصية دون كيخوته للكاتب
الإسباني "ميغيل دي ثيربانتس"، وظهر ذلك جلياً في دواوين شعره.
اقرأ أيضا: دون كيشوت| مصارع طواحين الهواء الذي
وُلِد من رَحِم صراعات الحياة
كانت هذه هي الفترة
الأولى التي شكلت وعي "نجيب سرور" الشاعروالفنان الكاتب الذي وقف في وجه
الاضطهاد وتحدى الظلم والقهر السياسي.
بعد إنتهاء مرحلة
الثانوية، التحق "نجيب سرور" بمدرسة الحقوق، لكنه تركها في عامه الأخير؛
ليلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، فكان يرى أن المسرح و الشعر هما المكان
الوحيد الذي يمكن من خلاله النضال لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية.
نجيب سرور - الفن والمسرح
نجيب سرور في السينما |
تخرَّج "نجيب سرور" من معهد الفنون المسرحية عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من عمره؛ ليبدأ بعدها مباشرة في اقتحام عالم الأدب والمسرح، ويبني أواصر الصداقة مع المثقفين، الأدباء والمفكرين.
بدأ "نجيب
سرور" حياته الأدبية بكتابة قصيدة الحذاء عام 1956، التي يحكي فيها المعاناة
التي تعرض لها والده بسبب ظلم عمدة قرية أخطاب، فقد كان رجل قاسي القلب يكره
الفلاحين ويسلبهم رزقهم.
أنا ابن الشقاء
ربيب الزريبة
والمصطبة
وفي قريتي كلهم
أشقياء
وفي قريتي (عمدة)
كالإله
يحيط بأعناقنا
كالقدر
بأرزاقنا
بما تحتنا من حقولٍ
حبالى
يلدن الحياة
وذاك المساء
أتانا الخفير ونادى
أبي
بأمر الإله! ..
ولبى أبي
وأبهجني أن يقال
الإله
تنازل حتى ليدعو
أبي
اشتغل "نجيب
سرور" أربعة أعوام بالإخراج المسرحي، نال خلالها بعضاً من الشهرة والشهادة
بعبقريته المسرحية، وفي العام 1958 سافر في بعثة وزارة الثقافة إلى موسكو في
الاتحاد السوفيتي (روسيا) لدراسة الإخراج المسرحي هناك بشكل أكثر احترافية.
نجيب سرور متمرداً
نجيب سرور وعائلته |
لم يستطع "نجيب سرور" السيطرة على لسانه في الاتحاد السوفيتي، فأخذ بإلقاء الخطب والمحاضرات؛ مهاجماً النظام المصري والأنظمة العربية وجميع السلطات؛ موضحاً مدى الظلم والقمع بحق الناس.. فهم أموات على قيد الحياة!
لم يعلم أنَّ
زملائه في المنحة يكتبون التقارير عن كل ما يحدث، وبالطبع جاءت تقاريره سيئة
للغاية، فقامت الخارجية المصرية بسحب المنحة منه.
استمر
"سرور" رغم ذلك بالبقاء في الاتحاد السوفيتي، لكنه كان كارها للشيوعيين
هناك لعدم ثقته بهم، إلى أن قرر الذهاب إلى دولة المجر، ومنها الرجوع إلى مصر عام
1964.
كانت مخابرات
"صلاح نصر" في هذه الفترة لا ترحم أحداً، فنزل "نجيب سرور"
ضيفا بمعتقلاتهم مُكرَّماً بالصفع والضرب وسائر أنواع التعذيب النفسي.
مع ذلك لم يستطع
أحد إسكاته؛ فاستطاع وضع بصمته على الحياة الأدبية والثقافية حتَّى وفاته، فقد كان
رحمه الله كالذئب في شراسته، وعلى أتم استعداد لدفع ثمن مواقفه..
الخوف قواد.. فحاذر
أن تخاف !
.. قل
ما تريد لمن تريد كما تريد متى تريد
لو بعدها الطوفان
قلها في الوجوه بلا وجل :
الملك عريان.. ومن
يفتي بما ليس الحقيقة
فليلقني خلف الجبل !
إني هناك منتظر ..
والعار للعميان
قلبا أو بصر
وإلى الجحيم بكل
ألوان الخطر !
المعاناة والاضطهاد
تأرجحت حياة
"نجيب سرور"؛ بعد عودته إلى مصر بين الإبداع والمعاناة، فكما كتب مسرحية
(يس وبهية) وقام بتأليف كتب في النقد الأدبي، وكما أخرج مسرحية (ميرامار)، وكتب
دراسته (رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ) يشير فيها إلى عبقرية ثلاثية القاهرة للكاتب
الكبير "نجيب محفوظ"، فبزغ نجمه في عالم الفن المصرى والعربي، إلَّا أنَّه
قام يوماً بانتقاد أحداث أيلول الأسود في الأردن، وقام بكتابة مسرحية يهاجم فيها
النظام وطريقة معاملته للشعب الفلسطيني؛ مما أثار غضب شديد داخل أجهزة الأمن بسبب
هذه المواقف؛ فمنعوا عرض المسرحية، وصادروا النسخ المطبوعة منها، وقاموا بتحريض
زملائه لمهاجمته واتهامه بجنون الاضطهاد.
لم تتوقف ممارسات
النظام عند هذا الحد؛ وبالفعل قاموا باعتقال "نجيب سرور"، وطُرد من
وظيفته وتم تجفيف جميع منابع رزقه، ووصل الأمر لاتهامه بالجنون وإلقاؤه في مستشفى
الأمراض العقلية حتى وفاته، وحرمانه من رؤية زوجته الروسية أولجا وابنه شهدي.. كما
تخلت عنه زوجته المصرية الممثلة "سميرة محسن".
ساعدت جميع هذه
الظروف في خروج قصيدة الأميات الشهيرة، فانتقد بشدة وببذاءة بالغة الوسط الفني
والسياسي والأدبي وتحدث عن معاناته مع هزيمة النكسة، وذكر البعض بأسمائهم مثل محمد
حسنين هيكل و ثروت أباظة.
القى "نجيب
سرور" التسجيل الشهير لهذه القصيدة عندما سمح له طبيبه الشاب بمغادرة
المستشفى سراً لوقت قصير بصحبته، أمام كلٍ من (بيرم التونسي، أحمد فؤاد نجم، علي
بدرخان، ميرفت أمين، سعاد حسني).
نهاية شاعر متمرد
شاهد قبر نجيب سرور
قضى "نجيب
سرور" سبعة أعوام كاملة في مستشفى الأمراض العقلية ليتوفى هناك بتاريخ 24
أكتوبر عام 1978. بعد معاناته مع الاضطهاد والمرارة وأمراض الكبد الناتجة عن
إدمانه للكحول طوال فترة تواجده بالمستشفى.
قد آن يا كيخوته
للقلب الجريح
،أن
يستريح
فاحفر هاهنا قبراً
ونم
: وانقش
على الصخر الأصم
،
يا نابشاً قبري حنانك، ها هنا قلبٌ ينام
،
لا فرق من عامٍ ينام وألف عام
. هذي
العظام حصاد أيامي فرفقاً بالعظام
أنا لست أُحسب بين
فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبي كان دوماً
قلب فارس
كره المنافق
والجبان
. مقدار
ما عشق الحقيقة .
كانت كتابة هذه
الكلمات على شاهد القبر هي وصية "نجيب سرور".
تسببت وفاته في
اكتئاب لكثير من محبيه فقام الشيخ "إمام" بغناء قصيدة حلَّوا المراكب
ويظهر فيها صوت بكاؤه وترحمه على العظيم "نجيب سرور".
قام ابنه
"شهدي" لاحقا برفع القصيدة على شبكة الإنترنت بصوت والده لأول مرة في
مطلع القرن الحالي، مما تسبب في مطاردته وهروبه إلى الهند (مومباي) إلى أن كان
رحيله هناك متأثرا بمرض السرطان عام 2019.
شهدي نجيب سرور
خاتمة
في النهاية لا
يسعني إلا أن أقول ما جاء على لسان "نجيب سرور":
حين أقول أن هناك
مؤامرة ضدي من زملائي ومن النقاد هل يعني ذلك بالضرورة أنهم يلتقون ليلا محاطين
بشياطين الجن والإنس يخططون بوضوح لتدمير نجيب سرور وقطع عيشه؟ ألا يكفي وجود
مشاعر سلبية أو نظرة حاقدة أو تعليق مسموم ليكون كل توهم في في عقل نجيب سرور
حقيقة؟ حين أقول أن هناك مؤامرة من المخابرات لمطاردتي، هل يجب أن يكون المقصود هو
أن صلاح نصر يجلس مع ضباط مكتبه ييخططون لاختطافي والقائي هنا، ألا يكفي أن تكون
البلد كلها مختطفة وتحت المراقبة حتى يكون شعوري بالاضطهاد حقيقة واقعة لا مرضًا
يستوجب العلاج بالكهرباء.
COMMENTS