فيلم "6.5 متر" للوهلة الأولى يبدو فيلما عاديا.. مُجرد مطاردة بين جهاز الشرطة الإيراني وتُجار المخدرات.

فقط 6.5 متر من السينما "النظيفة" والحرة

صفية عامر

 

فيلم 6.5 متر

فيلم "6.5 متر" للوهلة الأولى يبدو فيلما عاديا.. مُجرد مطاردة بين جهاز الشرطة الإيراني وتُجار المخدرات.

الجو الحار الخانق، ورائحة الفقر والمخدرات التي تفوح من المكان.. تلهث الكاميرا مع الشرطي "صَمَد" خلال بحثه عن المُرَوِّج الأكبر "ناصر خاكزاد" الذي ضَحَّى ويُضحي ليضمن حياة نظيفة محترمة لأسرته.

بداخل عالم مُروجي المخدرات، يحيط بك مزيج من الاعتياد والبلادة، أو لِنَقُل نوع عجيب من الاستسلام والتماهي الكامل مع البيئة، معتادون على أقسام الشرطة ورجالها، والمعاملات الفظَّة، يُقْبَض عليهم مرات، ويُطلَق سراحهم مرات في متلازمة عجيبة.

يتحركون بلا مشاعر وبملامح مستسلمة، لا تدري هل سبب ذلك اليأس الكامل من تَحسُّن الأوضاع المعيشية بشكل قانوني وطبيعي، أم لم يعد هناك ما يخسرونه؟!

 

تستمر التحقيقات، وتستمر نفس الإجابات المحفوظة من الإنكار والتملص من التهم، بدم بارد.. أب يطلب من ابنه أن يتحمل جريمة ترويج المخدرات بدلا منه، ولا تهتز منه شعره حين يقرر القاضي إيداع الطفل دار رعاية الأحداث لثلاث سنوات، قبل أن يرق القاضي لبكاء الطفل، فتصبح سنتين!!

الفيلم متوافر على محركات البحث، ويستحق المشاهدة..

الأداء سلس بسيط عبقري من الجميع، بإيقاع سريع لاهث، ومخرج قادر أن يلزمك مقعدك، حتى مع القطع لكنك ستشعر وكأن الكاميرا دارت ولم تتوقف إلا مع كلمة النهاية.

 

هذا الفيلم بشكل خاص؛ والسينما الإيرانية بشكل عام هما مدخلي في هذه التدوينة، مقارنة بين المسموحات لدينا، مقابل الممنوعات هناك.. فالغلَبَة من الناحية النظرية لنا، ولكن على الأرض البان شاسع.

 

جميعنا يتذكر حملة "السينما النظيفة" والتي انتعش سوقها في أواخر التسعينات من القرن الماضي، المعنى المتداول وقتها هي السينما الخالية من القبل والتعري، حتى تتناسب مع قِيَم الأسرة المصرية، ومحاولة لتشجيع الجمهور للعودة إلى دور السينما، قبل أن تنهار الصناعة إلا من بضعة محاولات لإبقائها على قيد الحياة.

 

على الطرف الآخر وتحت حكم الملالي، ووسط قائمة من المحظورات والممنوعات، فيما يخص العنصر النسائي داخل العمل الفني، ورفض أي تلامس حتى لو اقتضت الضرورة الفنية، قدمت - ومازالت - السينما الإيرانية إبداع لا ينتهي.

 

لا أدري ما التغيير الذي سوف يحدثه الحراك  والاحتجاج الحالي في معظم ولايات الجمهورية الإيرانية، على خلفية مقتل "ماهمسا أميني" فيما يخص صناعة السينما الإيرانية؛ لكننا أمام عقود من الإبداع المتواصل، ورغم تلك المحاذير إلا أن السينما الإيرانية استطاعت أن تعرض وتناقش قضايا هامة، وتُعَرِّي المجتمع الإيراني، ببراعة ومن خلال لغة سينمائية راقية، عميقة في فكرتها، بسيطة السرد، تمكن رواد السينما الإيرانية من التحايل على المحظورات بالتعبير عن أفكارهم ومعاناتهم، حيث أن معظمهم مشاركون في الكتابة، وينسب للمخرج الراحل الكبير "عباس كيارستمي" قوله أنه "يحاول عادة أن يختار قصصاً لا تحتم عليه أن يظهر الزوج والزوجة في منزلهما بمفردهما، لأنه وقتها لن يتمكن من تقديم مشهد واقعي.

 

الموانع لم تكن فقط متعلقة بحميمية المشاهد أو التلامس على أقصى تقدير؛ بل شملت الحريات بمعناها الكامل والشامل، وفي مشهد عبثي بامتياز، فإن المسؤولين أصحاب قوائم الممنوعات والموكل لهم مراقبة التنفيذ، كانوا يحتفون دوما بإنجازات المخرجين والفنانين الإيرانيين الذين نالوا أكبر وأرفع الجوائز الدولية، مثل "أوسكار" ومهرجانات "برلين" و"البندقية" و"كان".

 

رغم تلك العقبات وحتى مع اللجوء للرمز، لم يكن المعنى غامضا والرسالة وصلت بأفضل ما يكون..

نحن أمام مُعارضة حقيقية تدفع ثمن مواقفها السياسية، هم لا يلعبون دور "حلة الضغط" في أعمالهم، وفي الواقع مؤيدون متوائمون مع الأنظمة الديكتاتورية المتتالية إلا من رحم ربي.

لدينا "جعفر بناهي" ينجز أعماله سرا ويُهَربها للخارج رغم كونه تحت الإقامة الجبرية، وتم توقيفه في يوليو الماضي مع "محمد رسول آف" و"مصطفى آل أحمد" بزعم الإخلال بالنظام العام.

 

إجمالا؛ أنت أمام سينما نظيفة حرة، وليس كمثيلتها المصرية خالية المشاهد والفكر والحريات المزعومة.

اقرأ أيضا

الأب The Father | كيف تنقل مسرحية إلى السينما وتجمع بين جماليات الطرازين معا