في ظل الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال فترة الحرب الباردة، برزت عملية غلاديو كإحدى أبرز العمليات السرية التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الغربية
عملية غلاديو: شبكة الإرهاب الخفية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
(سيرجي كوربوف)
![]() |
تفجير محطة قطارات بولونيا 1980 - عملية غلاديو |
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ظل
الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال فترة الحرب الباردة، برزت عملية غلاديو
كإحدى أبرز العمليات السرية التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الغربية. كانت هذه
العملية عبارة عن شبكة من الجيوش السرية التي تعاونت فيها وكالة الاستخبارات
المركزية الأمريكية (CIA) مع جهاز الاستخبارات البريطاني
(MI6) من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). الهدف المعلن لهذه العملية
هو مواجهة الشيوعية والتهديد السوفيتي في حالة غزو محتمل لأوروبا الغربية. ومع
ذلك، سرعان ما اتخذت "عملية غلاديو" أبعادًا جديدة تجاوزت هدفها الأصلي،
لتصبح واحدة من أكثر الفصول غموضًا في تاريخ أوروبا المعاصر.
نشأة عملية غلاديو وأهدافها الأولية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت هناك
مخاوف متزايدة في أوروبا الغربية من توسع نفوذ الاتحاد السوفيتي، الذي أصبح يشكل
تهديدًا محتملاً للأمن الأوروبي. استجابةً لهذه المخاوف، نشأت فكرة إنشاء جيش سري
يُعرف بـ "الجيش الخلفي النائم (Stay-behind Army) ليكون مستعدًا
لمقاومة أي غزو سوفيتي محتمل. كانت مهمة هذا الجيش تتمثل في التحرك خلف خطوط العدو
وتنفيذ عمليات تخريب وتخويف للمدنيين، لضمان استمرار المقاومة ضد أي احتلال سوفيتي
محتمل.
عملية غلاديو هي الاسم الذي أُطلق على هذا الجهد
السري، وكانت الدول المشاركة في هذا المشروع تشمل العديد من دول أوروبا الغربية،
مثل فرنسا، بلجيكا، الدنمارك، هولندا، النرويج، ألمانيا، وسويسرا. كان الهدف
الأساسي هو حماية أوروبا الغربية من خطر التمدد الشيوعي، ولكن هذه العملية أخذت
منحىً مختلفًا عن أهدافها المعلنة.
التحول إلى شبكة إرهابية سرية
مع مرور الوقت، تحولت عملية غلاديو من مجرد
استراتيجية دفاعية إلى شبكة إرهابية سرية تتكون من مجموعة من الميليشيات اليمينية
المتطرفة، وعناصر الجريمة المنظمة، ووكلاء التحريض (Agents Provocateurs)، ووحدات عسكرية سرية.
بدلاً من التركيز على مواجهة الغزو السوفيتي المحتمل، أصبحت هذه الشبكة تقوم
بتنفيذ عمليات تخريبية وإرهابية داخل الدول الأوروبية نفسها. هذه الهجمات كانت
تهدف إلى خلق مناخ من الخوف والتوتر في المجتمعات، وتوجيه أصابع الاتهام نحو
الجماعات اليسارية والماركسية.
استراتيجية التوتر: خلق الفوضى لترسيخ الحكم الاستبدادي
كانت "استراتيجية التوتر" هي الأداة
الرئيسية المستخدمة في إطار عملية غلاديو، والتي تهدف إلى تصوير الحركات اليسارية
في أوروبا كتهديد أمني، من خلال تنفيذ أعمال إرهابية مميتة وإلصاق التهم بالجماعات
اليسارية. كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى إثارة الخوف بين الجماهير ودفعهم نحو
المطالبة بحكومات قوية واستبدادية قادرة على توفير الأمن.
نفذت شبكة غلاديو عددًا من الهجمات الإرهابية
خلال هذه الفترة، وكان أشهرها التفجير الذي وقع في محطة القطار بمدينة بولونيا في
أغسطس 1980. أسفر الهجوم عن مقتل 85 شخصًا، وتم توجيه التهمة في البداية نحو منظمة
"الألوية الحمراء" اليسارية، لكن التحقيقات كشفت فيما بعد أن العناصر
الفاشية داخل جهاز الشرطة السرية الإيطالية، بالتعاون مع لوتشيو جيلي، زعيم المحفل
الماسوني بي2 P2 كانوا المسؤولين عن هذه الجريمة.
تواطؤ أجهزة الاستخبارات ودور المحفل الماسوني P2
يُعتبر المحفل الماسوني "بي 2"
(Propaganda Due) أحد العناصر الفاعلة في عمليات غلاديو، وكان
زعيمه لوتشيو جيلي شخصية مؤثرة في إدارة هذه الشبكة. كان لهذا المحفل دور كبير في
تنفيذ العمليات الإرهابية وتوفير الغطاء السياسي والأمني للمشاركين فيها. كما تم
تجنيد مجموعات فاشية أخرى، مثل "Avanguardia Nazionale" و"Ordine
Nuovo"، لتقوم بأعمال تخريبية تستهدف زعزعة الاستقرار وإضعاف الثقة في
المؤسسات الديمقراطية.
ضحايا عملية غلاديو وتأثيرها على المجتمعات الأوروبية
أسفرت عمليات غلاديو عن مقتل مئات الأشخاص
وإصابة الآلاف بجروح، وذلك عبر سلسلة من الهجمات الإرهابية في أنحاء أوروبا. كان
الهدف من هذه العمليات هو دفع المواطنين إلى طلب المزيد من الأمن والتخلي عن بعض
الحريات، مما يسهل تبرير تزايد السلطة التنفيذية في الدول الغربية.
في شهادة أدلى بها الإرهابي السابق فيتشينزو
فينسيجيرا، وهو أحد عملاء غلاديو المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل رجال
شرطة، أشار إلى أن الهدف من عمليات غلاديو كان بسيطًا وواضحًا، حيث قال:
"كانت الفكرة هي إجبار الناس، أي الشعب الإيطالي، على اللجوء إلى الدولة
طلبًا للمزيد من الأمن. هذا هو المنطق السياسي الذي يقف وراء جميع المذابح
والتفجيرات التي بقيت بدون عقاب، لأن الدولة لا تستطيع إدانة نفسها أو الإعلان عن
تورطها في ما حدث.
كشف غلاديو ومحاولات التستر على الحقيقة
تم الكشف عن وجود عملية غلاديو لأول مرة في
الثمانينيات عندما تم العثور على وثائق تؤكد دور الناتو وأجهزة الاستخبارات
الغربية في إدارة هذه الشبكة السرية. مع ظهور الأدلة الجديدة، حاولت بعض الحكومات
الأوروبية التستر على القضية، بينما بدأت التحقيقات في دول أخرى. لكن، وبالرغم من
التحقيقات الرسمية، لم يتم الكشف عن جميع الحقائق المتعلقة بتورط أجهزة
الاستخبارات في هذه العمليات الإرهابية، مما أثار شكوكاً حول مدى التواطؤ الحكومي
في هذه الأحداث.
ختامًا: إرث عملية غلاديو وأثرها على السياسة الأوروبية
تبقى عملية غلاديو إحدى أكثر العمليات السرية
إثارة للجدل في تاريخ أوروبا الحديث. لقد كشفت هذه العملية عن حدود ما يمكن أن
تقوم به الحكومات من تلاعب سياسي لتحقيق أهدافها، حتى لو كان ذلك على حساب حياة
المواطنين وأمنهم. على الرغم من مرور عقود على هذه الأحداث، لا تزال آثارها تتردد
في السياسات الأوروبية الحديثة، حيث يبقى السؤال مفتوحًا حول دور الأجهزة
الاستخباراتية في تشكيل السياسة الداخلية والخارجية للدول.
في النهاية، يمكن القول إن عملية غلاديو كانت
تجربة حية توضح كيف يمكن لاستراتيجية التوتر أن تُستخدم كأداة للتلاعب بالرأي
العام، وترسيخ الحكم الاستبدادي تحت ذريعة الحفاظ على الأمن. لا يزال هذا النموذج
يستدعي دراسة معمقة لفهم ديناميكيات القوة والسيطرة السياسية التي تتجاوز الحدود
المعلنة للأمن القومي.
COMMENTS