(الخبز الحافي).. هكذا أطلق الكاتب المغربي "محمد شكري" على واحدة من أجرأ السِيَر الذاتية التي كُتِبَت يوما ما.
رحلة البحث عن (الخبز الحافي) | محمد شكري والسيرة الذاتية للفقر والمعاناة
الأديب المغربي "محمد شكري" وكتابه (الخبز الحافي) |
الخبز الحافي - سيرة ذاتية جريئة
حين قرأت هذه السيرة الذاتية لأول مرة منذ عدة
سنوات؛ أُصِبت بالحيرة، لأنني لم أعرف أي نَوْع من الأدب هذا الذي أمامي؟!
هل هذه سيرة ذاتية عجيبة لأديب شهير تعلم القراءة والكتابة
في سن العشرين من عمره؟!
أم هي سيرة ذاتية للفقر والجوع والبؤس والشقاء والمُعاناة؟!
(الخبز الحافي)..
هكذا أطلق الكاتب المغربي "محمد شكري" على واحدة من أجرأ السِيَر الذاتية التي كُتِبَت يوما ما.
وُلِد "محمد شكري" في مدينة (بني شيكار)
في المغرب عام 1935م؛ في عصر المجاعة المغربية وقبل الاحتلال الإسباني لبلاده
بفترة قصيرة.
أب سكير قاتل
تبدأ أولى صفحات كتاب (الخبز الحافي) بحديث "محمد
شكري" عن أسرته شديدة الفَقر، وعن كُرهِه الشديد لوالده السِكِّير المُتَهور،
والعاطل عن العمل الذي يبطش بهم جميعا، ويُذيق أمَّه الوَيْل والعذاب كل ليلة قبل
دخولهما الفِراش، ويسرق نقودها التي جَنَتْها من بيع الخُضَر والفاكهة.
زادت كراهية "شكري" لأبيه عندما رآه يقتُل
شقيقه الأصغر "عبد القادر"؛ لأنه كان مريضا ويسعل بشدة، ففقد الأب السِكِّير
أعصابه في لحظة جنونية، ولَوَى عُنُق الطفل؛ فكسرها حتى يستريح من بكائه..
و في صباح اليوم التالي يُدفَن الطفل الصغير دون
سؤال ولا جواب من أحد.. كل هذا و"محمد شكري" لم يتجاوز الثامنة من عمرِه
بعد.
المقهى الذي كان يحبه شكري في مدينة طنجة |
الرحلة إلى الخبز الحافي - معاناة جديدة
تُقرر الأسرة الذهاب إلى (طنجة) سيرا على الأقدام، هَرَبا
من المجاعة وبحثا عن الخبز الحافي كما يقول كاتبنا..
وهناك – في طنجة - تستمر والدته في بيع الخضار والفاكهة،
بينما يدفع به أبيه للعمل في مقهى مشبوه؛ فيتعلم هناك السرقة والنَشْل وتدخين
الحشيش، ثم تقوده صُحبة السوء وهو في سن
صغير إلى أحد بيوت البغاء..
وعلى مدار صفحات متتالية؛ يحكي "محمد شكري" ما رآه وما شاهده بالتفصيل..
يُطرَد الصبي من القهوة؛ وجزاءً لذلك يتعَّرض للضرب
الشديد القاسي من والده.. الوالد الذي يصفه في جميع صفحات الكتاب بـ (الوحش - المجرم
- القاتل - السكير - العاطل.. إلخ).
الحياة في الشوارع
يُقَرِّر الصبي الهرب بعيدا عن أبيه؛ فيدخل حياة التشرُّد من أوسع أبوابها، ويعيش على أكل بواقي الطعام من القمامة، وكان يقول أن الطعام في قمامة طنجة؛ أفضل من قمامة أهله.
يُصبِح "محمد شكري" شريدا يفترش الأرصفة،
ويبيت في الشوارع، ويتعرَّض للتحرُّش والاعتداء الجنسي (الاغتصاب) من أبناء الشوارع
والمجرمين، وكان من الحين للآخر يذهب لرؤية أمِّه، واختلاس الطعام من أبيه.
ثم تقوده حياة التشرد تلك إلى التعرف على شخصين في
بداية مرحلة الشباب؛ فيذهب معهما إلى سرقة الأسواق، ليجد المال الذي يُمكِّنه من شراء
الطعام والشراب، والإنفاق في دور البغاء والحانات.. ومن وقت لآخر؛ كان يعثر عليه
والده صدفة في الطريق فيحكي محمد شكري ما حدث بينهما في مرة من هذه المرات.. فيقول:
كثيرا ما يباغتني أبي في الشارع؛ فيجيء من خلفي، ويقبِض على ياقة قميصي، أو يلوي ذراعي بيد، وينهال بالأُخرَى عليَّ ضربا حتى يسيل دمي.. وحين تتعب يداه وقدماه من الضرب يعُضُّنِي في كَتِفي أو ذراعي أو أُذُني، ثُم يلقيني أرضا ويرفسني بقدمه حتى أفلت منه، وأجدني بعيدا عنه لاعنا إياه، كارها كل الناس، باصقا على السماء والأرض!
تستمر حياة "شكري" مع هذين الصديقين.. فترة طويلة ما بين السرقة والبلطجة والتردد على دور البغاء، حتى يُزَج به في السجن.. فيصف هذه الفترة وما تعرَّض له بأبشع الألفاظ، وبجرأة لن تجدها - غالبا - في أي سيرة ذاتية.
يخرُج من السجن وهو بعمر الثامنة عشر؛ ليعمل في تهريب
البضائع من الميناء وسرقتها، ثم تستقر حياته نوعا في هذه المرحلة؛ حيث يتوفر له
المال اللازم للإقامة بالفنادق الرخيصة، واحتساء الخمر وشُرب الحشيش، ومصاحبة فتيات
الليل ومصادقة النشَّالين واللصوص.
نقطة تحول
في العام 1952م؛ وفي ذِكرَى مرور 40 عام على إعلان
الحماية الفرنسية على المغرب؛ يتم القبض على "محمد شكري" والزج به في
السجن؛ وذلك في إحدى حملات التفتيش على المشبوهين واللصوص.. وهناك يقابل الكثير من
المُعتَقَلين السياسيين، وكان من بينهم وكيل نيابة يكتب أبيات الشعر على حائط
الزنزانة.. حين سأله "شكري": ماذا تكتب؟
استعجب الرجل؛ فكيف لشاب في العشرين من عمره ألا يعرف
القراءة والكتابة؟!
أخبر وكيل النيابة "محمد شكري" بأنه يكتب
بيتا شعريا للشاعر التونسي العظيم "أبي القاسم الشابي" يقول فيه:
إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب
القدر
الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي |
ثم يمسك وكيل النيابة قلما، ويكتب الحروف، ويُعلِّمه
إياها.. كان هذا عالما جديدا يتفتح أمام "محمد شكري".
حياة جديدة
بعد أيام يغادر "محمد شكري" السجن؛ ولا
شيء يسيطر على أفكارِه غير تَعَلُّم الكتابة والقراءة.. فيذهب إلى المقهى، ويسأل عن
كيفية تعلُّم القراءة والكتابة؛ فيساعده أحد الأشخاص بكتابة خطاب توصية لأحد مديري
المدارس في بلدة (العرائش).. وبالفعل؛ يلتحق "شكري" بالمدرسة لأول مرة؛
وهو في العشرين من عمره..
بعد فترة قصيرة؛ يصادف "شكري" رجلا أعمى
يبحث عمَّن يقرأ له الروايات والكتب مقابل المال، فيترك "محمد شكري"
حياة التشرد، ويذهب مع الرجل، ليقرأ له روائع الأدب العالمي، ويبدأ مرحلة أخرى ومختلفة
تماما في حياته.. مرحلة تحول فيها إلى أديب عالمي تُرجِمَت سيرته الذاتية لأكثر من
60 لغة حول العالم، وجاء الأدباء من جميع أنحاء العالم لرؤيته.
تنتهي هنا صفحات الجزء الأول من سيرته الذاتية؛ (الخبز
الحافي) بجملة يقول فيها:
لقد فاتني أن أكون ملاكا
النهاية
لم ينجب "محمد شكري" لأنه لم يتزوج طيلة
حياته، وقال في ذلك:
لكي أُصبِح أبا لابن؛ عليَّ أن أتزوج.. لقد عزفت عن الزواج لأني أخشى أن أمارِس على من ألِد نفس التسَلُّط والقهر الذين مورسوا علي.. لهذا أنا أخشى أن يكون لي مولود، فأنا لا أثق في نفسي
تُوفِّى "محمد شكري" عام 2003م في مدينة
الرباط بالمغرب بعد إصابته بمرض السرطان
COMMENTS