واحدة من أوضح خصائص ما بعد الحداثة هو دعم وتمكين كل ما هو على الهامش، مختلف، نادر، وصادم، ودعم التفكيك إلى أصغر الوحدات الممكنة

أصفر | مخلل ما بعد الحداثة

 (بقلم: زيتون)

مخلل ما بعد الحداثة

مخلل أمريكي

هل يُسمَح في عالم ما بعد الحداثة بالترابط الأسرى؟!

واحدة من أوضح خصائص ما بعد الحداثة هو دعم وتمكين كل ما هو على الهامش، مختلف، نادر، وصادم، ودعم التفكيك إلى أصغر الوحدات الممكنة؛ سواء كان ذلك جغرافيا أو تاريخيا واجتماعيا أو حتى ماديا.

فيلم An American Pickle هو فيلم درامي كوميدي، إنتاج سنة 2020م بطولة "سيث روغن" وإخراج "براندون تروست"..

يدور الفيلم بين "هيرشيل جرينباوم" الذي وقع في برميل من (المخلل) منذ مئة عام، وخرج من هذا البرميل في هذا الزمان، ولم يجد من عائلته سوى "بن جرينباوم" حفيده.. ثم تستمر الأحداث في سياق كوميدي.

ما أثار حفيظتي بعد مشاهدة هذا العمل هو طبيعة العلاقة التي كانت في هذا الفيلم بين الجد وحفيده، وتطابق هذه الطبيعة مع واقع الحال في العلاقات بين أفراد الأجيال المختلفة في هذا العصر؛ عصر ما بعد الحداثة في البلاد المتقدمة أو حتى دول العالم الثالث.

أجيال

في التاريخ الاجتماعي لبلد ما وتحديدا الشرقية منها، لن تجد هذا التنافر الشديد بين الأجيال المتعاقبة؛ بل ستجد تداولا للقِيَم الاجتماعية، مع الإضافة والحذف بما يحفظ النسق الاجتماعي التاريخي لهذه البلدة أو تلك. لكن!!

منذ بزوغ مرحلة ما بعد الحداثة؛ حيث العداء مع العقلانية وسيطرة الفردانية كأهداف وأنماط تفكير؛ أصبح صراع الأجيال واضحا حتى بين أفراد العائلة الواحدة!

قد يظن البعض أن مصطلح ما بعد الحداثة هو مجرد لفظ نظري أو نسق  فلسفي ولا وجود له على أرض الواقع، لكن إن لم يكن اللفظ بذاته موجودا فإن أجزاء وآثار عالم ما بعد الحداثة تتواجد حيث ينتمي لها.. على سبيل المثال ماكينات وبطاقات الصرَّاف الآلي وكاميرات المراقبة وأجهزة تحديد المواقع؛ هذا من حيث المادة.

أما من حيث المعنى والإشارة؛ فإن مشهدين من هذا العمل يمكن أن ينطقا بالكثير عن هذا الأمر.

المشهد الأول

حيث يتواجد الجد وحفيده في منطقة مقابر العائلة بعد أن أصبحت أرضها مشاعا عاما مستباحا، وتقوم بعض الشركات بوضع لافتات دعاية للخمور.. وبينما ينفعل الجد ويستاء من ذلك الأمر، ويحاول أن يؤدي بعض الصلوات أمام قبر زوجته ثم قبر ابنه وزوجته - لم يتمكن الجد من رؤية أي منهما في حياتهما - تجد الحفيد بشكل تلقائي يتصفح هاتفه لقراءة بعض المواضيع الترفيهية، وبلا أي مشاعر ملائمة للموقف بصورة فجة، لكن ظاهرة في شوارعنا.

أصبحت الرابطة العاطفية بين الأجيال أو حتى بين أفراد الجيل الواحد غير موجودة وباردة؛ وهى من أوضح الآثار التي تتركها أدوات ما بعد الحداثة التعليمية والإعلامية؛ وفي عالمنا الشرقي ستجد أمثلة صارخة على ذلك، منها ثقافة التصدُّر على منصات التواصل الاجتماعي دون الانتباه للقيمة الأدبية أو الأخلاقية للمُحتوى المراد تقديمه؛ بل تجاوز الأمر ذلك، فتجد محتوى يُسيطر عليه العُري والانسلاخ من الضابط القيمي والأخلاقي.

قد يظُن القارئ أن هذا الأمر موجود بشكل أو بآخر في كل عصر! لكن المختلف في هذا الزمان هو قناعة الشباب والبنات المشاركين في صناعة ذلك المحتوى بأنه يندرج تحت باب الحرية، وأن كل فرد مسئول عن تصرفاته، ولم يساور أحد منهم أي خوف أو تأنيب بأن في ذلك مخالفة أخلاقية وانتهاك لقيم اخلاقية محيطة به!

بل أصبح كل ما يحيط بالأجيال المتأثرة بثقافة ما بعد الحداثة من تاريخ ودين وثقافة ومظاهر؛ مُجرَّد أدوات مُتاح استخدامها لخدمة الغاية الفردانية دون النظر عن القيمة الأخلاقية والوجدانية لما يتم استخدامه.

في أي مناسبة دينية؛ يمكنك أن تتصفح بعض المحتويات المرئية لبعض مشاهير موقع الـ TIK TOK والمواقع المشابهة له.. ستجد شابا أو شابة يحاكي نشيدا دينيا، مُمسكا بمصحف أو سجادة ليحتفل بتلك المناسبة، وقد يكون الفيديو التالي بعد مرور المناسبة الدينية هو فيديو راقص بملابس خليعة على أنغام أغنيات ذات كلمات بذيئة.

الحديث في هذه الجزئية مؤلم لأن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، بل تغلَّل في صميم المعتقدات الأصيلة والعادات والتقاليد المتوارثة، واهتزت هذه المعاني بشكل صارخ لدى الكثير من أبناء هذا الجيل.

المشهد الثاني

حيث يقف "هيرشيل" في شوارع بروكلين ليبيع الخيار المخلل الذي استخدم فيه الملح والخيار ومياه الأمطار فقط، وعبوات جمعها من صناديق القمامة، ثم يمر بعض الشباب، وتجذبهم الرائحة فيتساءلون عمَّا إذا كان طبيعيا وخاليا من المواد الحافظة والإضافات غير الصحية؟!

في عالم ما بعد الحداثة، اعتاد الكثيرون على البحث عن المأكولات والمشروبات الطبيعية، الطازجة، الصحية.. ومن ثَم بذل الجهد والمال في البحث عنها، على الرغم من الأمر يتطلب بعضا من البطء الوجداني، بدلا من التسارع المحموم، لندرك أن الأمر يحتاج لبعض من القراءة والبحث لنصنع بأنفسنا مخللا طبيعيا صحيا، أو الحصول على خضروات وفواكه عضوية..

قِسْ على ذلك في أبواب كثيرة صارت صناعتها بتعقيد أسهل من بضع طَرقات عليها!

تَسُوقنا التطورات التي طرأت على الأدوات الحداثية إلى حافة الهاوية، حيث تنسحق القيمة الاجتماعية والمعنوية للإنسان وأفكاره تحت قطار المادية المُفرطة التي تصطبغ بها سنوات ما بعد الحداثة، فلا وجود في العقل الفردي لقيمة العدل والحق والترابط الاجتماعى..

فقط تنمو الرغبة في توسيع رقعة وسيطرة ما هو متاح للهامش والغريب، حتى صار السائد عُرفا وعقلا ودينا.. مُجَرَّد هامش.

اقرأ أيضا: القلعة الأخيرة | كيف تُحدِث تغييرا وثورة