لقد رسم الإنسان القديم على لوحة السماء أبطال ورجال وقصص وحكايات وأساطير تناقلتها الأجيال بعد الأجيال، وأصبحت تشكيلات النجوم تُسمَّى بأسماء هذه اللوحات

منكب الجوزاء | الفاتن الأحمر النابض في سماء الشتاء

 بقلم: سيرجي كوربوف

كوكبة الجبار - منكب الجوزاء

الكون

كونُنا البديع..

ذلك الكون الذي خلقه الله في زمان سبق الزمن ذاته..

مئات المليارات من المجرات تتجول في صمت رهيب، وفي حركة دائمة إلى المجهول..

أو ربما إلى البداية نفسها التي سبقت ميلاد المكان والزمان!!

تتكون المجرات من مليارات المليارات من النجوم التي تنبض بالحياة والقوة.. هذه النجوم التي تصنع الحركة الدائبة لهذا الكون المُعجِز..

ربما تكون البداية غامضة، لا تَصَوُّر لها غير ما تُقدِّمه بعض تفسيرات الأديان السماوية.. لكننا هنا لن نتحدث عن ماهية هذه البداية، ولن نسأل، كيف نشأ الكون؟!

 

السماء

تلك اللوحة السوداء المهيبة؛ المليئة بالغموض والرهبة..

تتجول فيها الأقمار..

وتدور الكواكب..

وتنبض النجوم..

نظر إليها الأجداد، وأرادوا سبر أغوارها.. لكن هيهات!!

لا سبيل إلى هذا العالم الهائل المليء بالسحر..

حكت لنا صفحات التاريخ كيف نظرت كل الحضارات القديمة إلى سماء الأرض الساحرة!! وكيف قدَّس نجومها وأبراجها الكثير والكثير من البشر!!

ربما خلُص بعضهم إلى عظمة الخالق – عز وجل – بالتأمُّل في عظيم خلقه، لكن الكثيرين تحوَّلت عندهم أجرام السماء وتشكيلاتها الخلَّابة إلى آلهة يعبدونها من دون ربهم.. وربما – أيضا – من هنا انتهت حضارات عظيمة ماجدة، واستحالت آثارها شواهدا على قبور من شيَّدوها..

لقد رسم الإنسان القديم على لوحة السماء أبطال ورجال وقصص وحكايات وأساطير تناقلتها الأجيال بعد الأجيال، وأصبحت تشكيلات النجوم تُسمَّى بأسماء هذه اللوحات الخالدة..

أبراج السماء (الكوكبات)

كوكبات السماء أو الأبراج هي تشكيلات النجوم التي رآها الإنسان في أزمان سحيقة أثناء تأمله في سماء الليل، ورسم خطوطا وهمية بينها كي يرى فيها صورا ورسومات خيالية تعكس أساطير وملاحم توارثتها البشرية عبر تاريخها الطويل..

كل صورة من هذه الصور هي أحد أبراج السماء الشهيرة؛ فهذه النجوم ترسم صورة فتاة حسناء تقف حاملة سنبلات القمح في يدها (برج العذراء)، وهذه النجوم ترسم شكل الميزان، وتلك ترسم صورة الثعبان، وهذا هو برج المُثلَّث، وذاك برج الحَمَل..

وهذان الطفلان التوأمان اللذان يقفان متجاوران؛ تقول الأسطورة أنهما كانا ابني (جوبيتر Jupiter) وعشِقا الاستكشاف والبحث، ثم ماتا في إحدى رحلاتهما الغامضة، فصعدتا روحاهما إلى السماء ورسمتا كوكبة الجوزاء..

كوكبة الجبَّار Orion

أروع كوكبات السماء؛ وأجمل أبراجها..

كوكبة الجبار تقابل الأرض (أرضنا) كل شتاء، فنراها بمنتهى الوضوح في ليلة غير مُقمرة، سماؤها صافية.. هذه الكوكبة لا تُخطئها العين إطلاقا.

الجبار Orion هو صياد عملاق؛ يرفع بيمناه هراوته، ويحمل في يسراه درعه (أو صيده)، ويتدلى سيفه القصير من حزامه..عرف اليونانيون هذا الصياد منذ قرون وأسموه المُحارب Warrior، وقالت إحدى الأساطير أنه لم يكن هناك حيوان يستطيع الإفلات من قبضته، فأصبح الصياد مصدر تهديد لحيوانات الأرض كلها.. فقررت إحدى آلهتهم "جايا" التخلص منه؛ وأرسلت عقربا ضخما كي يقتله، وبعد صراع طويل بين الصياد والعقرب، يستطيع العقرب لدغه في قدمه، فيموت في الحال.. فتقوم آلهتهم برفع جثته لتتناثر نجوما في السماء على نفس هيئته، وكذا فعلوا مع العقرب تقديرا لدوره في الحفاظ على حيوانات الأرض من الفناء.. هكذا يظل الصياد إلى الأبد في السماء؛ ناظرا بشغف إلى حوريات الثُريَّا الرائعة التي تصطف بمنتهى الدلال في قلب برج الثور..

نرى كوكبة الجبار بسهولة في الشتاء، ونستطيع الاستدلال عليها في السماء بحزام هذا الصياد.. حزام أوريون..

كوكبة الجبار بها نجمان من ألمع نجوم الليل؛ هما منكب الجوزاء ورجل الجبار، كما أن أغلب نجومها هي نجوم ساخنة عملاقة؛ ينفذ وقودها الهيدروجيني بسرعة كبيرة، فاقتربت من توقف عملية الاندماج النووي بها، وأصبحت في أطوار الاحتضار.. وربما يُعتبر منكب الجوزاء هو أقرب هذه النجوم للانفجار والتحول إلى مستعر أعظم Supernova، حيث يعيش آخر مرحلة من مراحل حياته الطويلة..

تحتوي كوكبة الجبار أيضا على عديد من السُدُم الرائعة؛ أهمها سديم أوريون العظيم الذي يحتوي على مساحات هائلة من الدخان والغبار الكوني التي تكفي لميلاد آلاف النجوم..

حزام أوريون وأهرامات الجيزة

أهرامات الجيزة - حزام أوريون

حزام أوريون هو حزام يقع على خط شبه مستقيم، ونراه على هيئة ثلاثة نجوم لامعة هي (النظام والنطاق والمنطقة)..

ما لا يعرفه البعض أن أهرامات الجيزة الثلاثة قد بُنيَت على هيئة حزام أوريون في السماء، الشيء الذي وضع علامات استفهام كثيرة عن سبب بناء هذه المباني الإعجازية.. قَرَأْت دراسة منذ عشر سنوات تتحدَّث عن استخدام أهرامات الجيزة كمراصد فلكية في الأساس، خصوصا أن كثير من حضارات الأرض القديمة قد قدَّست نجم الشعرى اليمانية Sirius (أحد ألمع نجوم السماء)؛ هذا النجم الذي رمز ل"إيزيس"؛ إحدى بطلات أساطير قدماء المصريين.. نجم الشعرى يقع دوما في مجال الرؤية عندما تنظر إلى كوكبة الجبار.

منكب الجوزاء Betelgeuse – الفاتن الأحمر

منكب الجوزاء من النجوم العملاقة، فقطره يساوي أربعمائة ضعف قطر الشمس، وشدة استضاءته تبلغ 3600 مرة مثل الشمس أيضا، كما أنه يبعد حوالي 500 سنة ضوئية عن الأرض..

منكب الجوزاء هو العاشر بين ألمع نجوم السماء، يقع عند كتف الصياد اليمنى التي يرفعها حاملا هراوته..

في نهايات 2019م خفتت إضاءة منكب الجوزاء بشكل واضح وقلَّت درجة سطوعه، لكن مع بدايات 2020م عاد للسطوع مجددا..

كما سبق وذكرنا؛ فهذا الفاتن الأحمر العظيم يعيش الأطوار الأخيرة من حياته؛ يعتقد بعض العلماء أنه سينفجر بعد بضع آلاف من السنين، ويعتقد أخرون أنه قد ينفجر في أي وقت متحولا إلى مستعر أعظم..

مستعر أعظم - Supernova

نجم عملاق بحجم منكب الجوزاء عندما يتحول إلى مستعر أعظم متوسط، سيرى ذلك كل سكان الأرض، حيث ستتضاعف شدة إضاءته حوالي 16 ألف مرة على الأقل..

ربما في ليلة شتوية نعيشها في المستقبل، نرى نهاية حياة هذا النجم الأحمر الفاتن، ويضيء سماءنا قمرٌ آخر لآلاف السنين؛ حيث يقول العلماء أن سطوع منكب الجوزاء بعد انفجاره سيعادل سطوع القمر في ليلة تكتمل فيه استدارته.

(ملحوظة: أساطير وحكايات أبراج السماء تم ذكرها في العقائد الوثنية القديمة، وتعارض تماما العقل والمنطق وتصورات الأديان السماوية)

اقرأ أيضا: ما قبل الزمان والمكان | رحلة وراء أستار الغيب