لنجرّب أن تبتعد عن كل الشاشات لمدة أسبوع ‏وسندرك كم الخواء الذي تنطوي عليه عقولنا وكم اللاشئ الذي نفتقد إهدار الوقت فيه وقد أخذ حيزًا كبيرًا بلا داع

 لا تقتل عقلك

 (بقلم/ زيتون)

لا تقتل عقلك

حالة من الترهل الاجتماعي والتبلد النفسي الجماعي يمكن أن تستشعره أينما حطت رحالك، والنبيه من يراها استنساخًا لنظام الفصام السائد على منصات التواصل الاجتماعي. حيث طغت طبيعة البرمجة لمنصات السوشال ميديا على عقول مشتركيها، بحيث أصيب أغلب مرتاديها  بإنكماش عقلي حاد له تأثير واضح في التعاطي "الواقعي" مع الأحداث، فمبادئ مثل «قصف الجبهات، حظر المخالف، غزو الكومكس للأفكار الحساسة/المقدسة/الحيوية، الإغترار بكثرة الداعمين/المتابعين» خرجت من مجرد شيوعها في الوسط الإلكتروني إلى ردود أفعال حقيقية في الواقع الإجتماعي بكافة أشكاله.

 اقرأ أيضًا: بحر الصين الجنوبي | بحر الظلمات

 الأمر هنا لا يقتصر على مستوي تعليمي، بل ممتد من أصحاب الدرجات العلمية المرموقة إلي أصحاب التفكير السطحي. وهذا الإنكماش الذي يتوافق مع تسارع التفاعلات الاجتماعية المختلفة والأحداث المتعاقبة يوميًا له تأثير خطير وحاد، وإليك نموذج يمكنك من خلاله أن تدرك خطورة هذا الإنكماش العقلي:

 

على منصات التواصل الإجتماعي يمكنك أن ترى شخصًا ما يستدل لتأييد موقفه لشئ ما بخبر/صورة/فيديو. لكن الدليل المُستخدم مُفبرك! حينئذ تستطيع أن تأتي له بمصدر يثبت فبركة الدليل وينتهي الأمر. أما على أرض الواقع، فالأمر خطير، بحيث لن يُتاح لك الفرصة في إثبات فبركة «الرأي المنطوق باللسان» لمن يخالفك. حيث أن في الواقع الإجتماعي للأسف تتساوى كل الأراء في ظل تخلخل الهرم الإجتماعي وغياب القناعة بأهمية العلم؛ فكل أفراد المجتمع أغلبهم حاليًا يشترك في مبدأ عنوانه: «قولي صواب لا يحتمل خطأ ودليلك على فبركة كلامي مجرد وجهة نظر غير مُلزمة لي!»

 

‏هذا الأمر - أي اعتبار الصواب الواضح مجرد وجهة نظر تخضع للقبول والرد - يُعاني منه كل شخص يؤمن بطريق البحث والدرس بصحة موقف أو رأي معين، ثم يجد مخالفا له في النقاش يرفضه بحجة (عدم الإقتناع)

جوزيف شومبيتر

وقد أشير إلى تأثر هذه العقلية بشكل جماعي وانخراطها في قضية ما من القضايا العامة التي تهم المجتمع دون فهم أو وعي. وتلك الإشارة لعالم الإقتصاد "جوزيف شومبيتر" ‏في مقالة له بعنوان المذهب الكلاسيكي للديموقراطية، حيث يقول:

 

"إنَّ الجهل سوف يستمر في مواجهة جماهير المعلومات مهما كانت كاملة وصحيحة. وهي مستمرة حتَّى في وجه الجهود الجديرة بالاهتمام التي يجري بذلها لتجاوز تقديم المعلومات وتعليم استخدامها عن طريق المحاضرات والطبقات ومجموعات المناقشة. وهكذا ينخفض المواطن العادي إلى مستوى أدنى من الأداء العقلي بمجرد دخوله المجال السياسي. وهو يجادل ويحلل بطريقة يمكن أن يعترف بها بسهولة باعتبارها طفولية في مجال مصالحة الحقيقية..

إنَّ المواطن العادي في المسائل السياسية يميل إلى التحامل أو الدافع التعسفي أو غير العقلاني.. إنَّ ضعف العمليات العقلانية التي يطبقها على السياسة وغياب السيطرة المنطقية الفعالة على النتائج التي يصل إليها سيكفي في حد ذاته لمراعاة ذلك" - انتهى كلامه.

 اقرأ أيضًا: الطريقة الأمثل لمعاقبة فيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي

وهذه حاله جماعية لها نظير قديم والأن أصبحت أشد رسوخًا وانتشارًا وشيوعًا وهو ما أدى إلى انعدام القيمة الحقيقية والواقعية للعلم، وأصبحت القناعة الذاتية -حتَّى وإن تم بناؤها عن جهل- بديلًا كافيًا لرد الحقائق ورفضها.

 

الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه

إذن ما الحل للخروج من الإنكماش العقلي المسيطرة على الجميع؟

دعني أضرب لك مثالًا مر به الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبريه» وقد عرضه في مقدمة كتابه «نقد العقل السياسي» حينما عاني من انفصال بين «ما يُتعلّم في المدرسة» -أي التاريخ والأدب والفنون- واقتصار غايته على تجاوز الإمتحان، وبين «ما يُعانى في الشارع» - أي الأحداث الاجتماعية - وعدم الاهتمام بتنظيرها وتسجيلها وتحليلها بشكل تحليلي لفهم طبيعتها، وغياب الربط بينهما واصفا إياهما بالتاريخ الكبير -أي التعليم-  والتاريخ الصغير -أي الأحداث اليومية- وغياب التصور الصحيح لاستيعابهما معا بشكل عملي.

 

كان حبل النجاة له هو «السجن»! فيقول: «إن السجنّ ليحرر، وهو الذي يتيح لبطء الليالي كل الفرص» ومن كلامه فالسجن كان طوق نجاة له من تسارع المسارات الحياتية والتعليمية، ليستطيع إدراك بديهيات حُجبت عنه فهمه رغم وضوحها وما حجبها إلا التسارع.

 

 ‏لا أقول أن نسعى للدخول إلى السجن بمعناه الحرفي، بل نتيح للعقل والروح نفس ظروف البطء الموجودة في السجن. نتيح للعقل أن يتفكر بمستوى معتدل وهادئ من مرور الزمن غير الذى اعتاده في السوشال ميديا أو الحياة اليومية وسنكتشف كم جنينا على أنفسنا.

لنجرّب أن تبتعد عن كل الشاشات لمدة أسبوع ‏وسندرك كم الخواء الذي تنطوي عليه عقولنا وكم اللاشئ الذي نفتقد إهدار الوقت فيه وقد أخذ حيزًا كبيرًا بلا داع في عقولنا. سنشعر بفراغ رهيب كان بوسعنا أن نملؤه بالعلم/البحث/التدارس. سندرك كم الأذى الذي نغط فيه بلا وعي.

 

 لنستيقن أهمية ان نعتزل ما يؤذينا حتَّى نتمكن من الاستمرار في مسارنا الذي نؤمن به إن كان يحمل في طياته قيمًا ومبادئ وأخلاقيات وعقائد ترتكز في مبناها على الروح والعقل والنفس.

 

 وأخيرًا، لن أقول استبدل الشاشة بكتاب، بل بمنهج مُحدد المعالم والزمن لتقرأ وتطالع وتدرس بجد ولا يكون تنفيذ ذلك المنهج فرديًا بل على يد معلم/ موجه/ ناصح/ مربي. لأن غياب الإيمان بالقدوة او التقليل من أهمية دور الموجه؛ هذه بلية أخرى من بلايا هذا العصر. فلا تترك الباب مفتوحا لإنكماش عقلك فبدلًا من أن يصبح موسوعة أو مرجعًا؛ سيصبح في أفضل أحواله جريدة صفراء استهلاكية لا يؤخذ منها إلا عناوين رنانه وجذابة ولن تقوى على أن تقع في يد قارئ أو باحث متفحص، لإن الأمر كما يقول المصريون (سيكون فضيحة بجلاجل)

 

عزيزي القارئ.. لا تقتل عقلك.