القضية تعود للعصور الوسطي، وهي مشهورة في التراث الأوروبي، وتلخص فترة المواجهة الأسطورية بين الكنائس الأوروبية وفترة التحولات الفكرية والمذهبية

 من محاكمات الساحرات إلى استخدام الإرهاب | تاريخ  إحكام السيطرة على الشعوب

بقلم: عزيز المصري

محاكمات الساحرات

ضد السحر

التفسيرات الاقتصادية لمحاكمات الساحرات وإعدام 40 ألف امرأة بتهمة الشعوذة وممارسة السحر في أرجاء أوروبا.

القضية تعود للعصور الوسطي، وهي مشهورة في التراث الأوروبي، وتلخص فترة المواجهة الأسطورية بين الكنائس الأوروبية وفترة التحولات الفكرية والمذهبية التي طرأت على المجتمعات الأوروبية، وشكَّلت نظرتهم فيما بعد، فقد شنَّت الكنيسة الكاثوليكية "بالأساس" حملة دامية على من أسمَتْهُم ممارسي السحر والشعوذة في كافة أرجاء القارة العجوز.. وقد استمرت تلك الحرب الشعواء "التي رفعت شعارات الحرب الدينية على الهرطقة، وشُحِنت فيها النفوس والمجتمعات، وامتدت ذُروتها لقرابة الثلاث عقود قبل ان تهدأ حدتها بعد الصلح التاريخي بين الكنيستين الكبيرتين في (ويستفاليا) إلى قرابة القرن ونصف.

مؤخرا خرج الاقتصاديان "بيتر ليسون" و"جاكوب روس" من جامعة (جورج ميسون) في فيرجينيا بنظرية مفادها أن تلك الحرب المقدسة التي خاضتها الكنيسة على المُهَرطقين والمشعوذين امتدت من 1550م وحتى 1700م، وبلغت حصيلة من خضعوا للمحاكمة فيها قرابة 80 ألف من السَحَرة، أُعدم نصفهم غالبا بالحرق (لم تكن أكثر من حرب محاصصة بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية على الأتباع).

 

الوهم

قبل ذلك التاريخ كانت الكنيسة الكاثوليكية ولمدة 5 قرون تقريبا ترفض تمام الاعتراف بوجود السَحَرة.. ولكن فجأة؛ وبعد ظهور حركة الإصلاح الكَنَسي على يد "مارتن لوثر"، وتنامي اللوثرية وصعود البروتستانتية الدراماتيكي، وفى ظل التنافس علي الأتباع وبسبب فقدان الكنيسة الكاثوليكية لشريحة ضخمة للغاية من أتباعها تم تدشين تلك الحرب لأهداف مُرَكَّبَة، من جهة لإرهاب العامة والبسطاء من الناس، ومن جهة أخرى لكسب ولاء الآخرين وتعزيز ثقتهم في أن الكنيسة قادرة على حمايتهم ويمكنهم الاعتماد عليها في مواجهة ذلك الخطر المجهول الغامض والمخيف معا.

وفجأة وبشكل مرعب تم تدشين تلك المرحلة وبحلول 1550م استعرت تلك الحرب بين الطرفين على الأتباع واستقطاب المزيد منهم، واستمرت لعقود ثلاثة وبمنتهى الشراسة قبل أن تهدأ بشكل شبه كامل.

بعد تحليل البيانات الجديدة التي تغطي أكثر من 43000 شخص تمت محاكمتهم بممارسة السحر في 21 دولة أوروبية، أظهرت البيانات أن مطاردة السحرة لم تنطلق إلا بعد تدشين حركة الإصلاح في عام 1517م وفى أعقاب الانتشار السريع للبروتستانتية حيث أصبح هناك خياران لا ثالث لهما:

إما التمسك بالكنيسة القديمة..

أو التحول إلى الكنيسة الجديدة..

وطبيعي أنه عندما يكون لدى الأتباع أكثر من خيار، لابد أن يشتعل التنافس (وهو ما كان)، فقد وصلت الظاهرة ذروتها بين عامي 1555م و1650م؛ وهي السنوات التي شهدت ذروة المنافسة على الأتباع المسيحيين بين الكنيستين (وفي تلك الفترة بالذات دشَّنت الكنيسة الكاثوليكية مرحلة المراجعات والإصلاح الكاثوليكي، وأخذت البروتستانتية تعزز من موقعها الجديد.. وبالتزامن مع ذلك شهدت تلك الفترة ذروة الحرب على المُهرطقين والسَحَرة.

 

هذا يفسر لماذا كانت نسبة الذين قُدِّموا لمحاكمات السحرة في ألمانيا (مهد اللوثرية) يُعادل 40% مِمَّن اتُهموا بالسحر والهرطقة من إجمالي من حوكموا، فيما انخفضت تلك النسبة في أطراف القارة الهادئة وغير المضطربة (كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وأيرلندا) مثلا، ولم تزد في أغلب الأحوال عن 6%  فقط حيث لم يكن هناك صدى لهذا الصراع.

ساحرات ماساتشوستس

يبقى فقط أنْ نقول أنَّ معايير الملاحقات القضائية لأولئك السحرة لو كانت على غرار تلك التي اتُّبِعت في قرية (سالم) بولاية ماساتشوستس الأمريكية عام 1692م؛ فأغلب الظن أن النسبة الكاسحة مِمَّن تمَّت محاكمتهم فيها أبرياء.. ففي تلك المحاكمات التي قامت على ادّعاءات مجموعة من فتيات القرية، وطالت العشرات من النسوة العجائز، كان يكفي أن تكون المُتَّهمة بالشعوذة وممارسة السحر امرأة عجوز كبيرة بالسن؛ لها سن ناتئ أو وحمة بارزة في جسدها (علامة الشيطان)، وتقتني حيوانا أليفا كقطة أو جرو صغير، وتعيش بعزلة عن المجتمع؛ حتى تُحال لتلك المحاكمات التي كان يكفيها بدورها أن تَزِن تلك المرأة (كان الوزن دليلا مهما لإثبات تلك الجريمة حيث أن الساحرة لابد أن تكون خفيفة الوزن حتى تتمكن من الطيران والتحليق بمقشتها المسحورة)، كما كانت هناك اختبارات أخرى كالسباحة والوخز والصلاة والتعويذات إلخ..

وبذلك تثبت إدانتها، وتُعدَم حرقا على مرأى من الجميع في أغلب الأحوال.

 

فيما بعد؛ وفي عام 1711م ستعتذر الجهات القضائية في ماساتشوستس عن تلك المحاكمات الهزلية، ويُقَر تشريع يبرئ ساحة أولئك النسوة المُدانات، ويُقدم التعويضات المالية لذويهن وورثتهن (الأمر الذي لم تفعله الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية في أوروبا حتى اليوم).

 

استراتيجية الإرهاب

تطرح هذه المُعالجة تصورا عن مدى كفاءة استخدام استراتيجية (الإرهاب) كوسيلة لإحكام السيطرة على الشعوب، وضمان ولائهم أو تحييدهم، وضمان صمتهم عبر تقسيمهم لفريقين:

- قسم يتم التنكيل به بقسوة عبر محاكمات صورية، ويُستخدَم ككبش فداء.

- وفريق آخر يشاهد برعب ما يحدث، ويحاول في كل لحظة إثبات ولائه وبراءته من تلك التهم المُوَجَّهَة للفريق الأول؛ حتى إن لم يكن مقتنع فيكفي أن يشاهد بصمت، مما يُعزِّز من قوة وجدارة تلك السُلطة في أعين باقي شرائح المجتمع؛ وهُم النسبة الكُبرى..

ولا يختلف ذلك عن سياق محاكمات "ستالين" الصورية في الاتحاد السوفييتي، وما قام به "جوزيف مكارثي" في خمسينيات القرن الماضي.

اقرأ أيضا: طليطلة وانفراط المسبحة | سقوط متكرر عبر الزمان