فالحضارة الغربية الأن على وشك الإنهيار لأنها مثل أي حضارة لها مرحلة تكون ونمو وشباب وشيخوخة لأنها تمثل الإنسان وتمثل مراحل حياته " هكذا يمكن تشبيهها"
الإنسان والحضارة (1)
يصنع الإنسان الحضارة لتكون أداة يستخدمها في
رحلة قصيرة " المسماة الحياة" ، فصُنع الحضارة يُعد المهمة الأولى
للإنسان في الحياة وهي شيء فطري مغروس بداخله بما أوكله الله به من مهام إعمار
الكون..
لذلك تجد
الإنسان منذ هبوطه على الأرض بهبوط آدم عليه السلام وهو مشغول بإقامة حضارته والتي
تختلف أهدافها وتتفق في هدف واحد، فاختلاف أهداف إقامة الحضارة يختلف باختلاف
المجتمعات و رغباتها ومتطلباتها وثقافتها وعقيدتها، فالمجتمعات ذات العقيدة
السماوية المُنزلة يكون هدفها الأساسي في إقامة الحضارة هو تنفيذ المهمة الموكولة
لها من قبل الخالق وهي إعمار الكون وتجد هذا النموذج واضح أشد الوضوح عبر التاريخ
بل يكاد يكون محصور في المجتمعات الإسلامية وتحديدًا الأولى منها والتي بدأت
بالرسالة النبوية إلى قرابة ألف عام بعدها..
أما المجتمعات الأخرى والغير مرتبطة بعقيدة
سماوية فتكون أبرز أهدافها لإقامة الحضارة هو الحفاظ على تلك المجتمعات وتوفير لها
أكبر قدر ممكن من سد الاحتياجات الضرورية للبقاء والنمو ومنها من تكون أهدافه هي
السيادة والريادة علي باقي المجتمعات المحيطة .. الخ من الأهداف..
وهذه هي
اختلافات أهداف المجتمعات في أسباب إقامة الحضارة، أمَّا الاتفاق الوحيد بينها هو
"الإنسان" إذ أنَّ محور ارتكاز أي حضارة يدور حول الإنسان ( لخدمته،
تنميته، الحفاظ عليه، ارتقائه).
والإنسان
مكون من جزئين أساسيين، الأول وهو المادة " الجسد" الثاني هو "الروح"..
والتوازن
بين المادة و الروح أمر ضروري حتمي لابد من أن تتحرك الحضارة في حركتها حول
الإنسان من خلال الجزئين (مادة وروح) حتى تصبح حضارة متزنة تلعب دورها الأساسي وهو
توفير حاجات الإنسان من أجل بقائه ، أما أن تميل الحضارة إلى احدى الجانبين، فهذا
هو الخلل الأولي الذي يكون السبب في إنهاء تلك الحضارة ، فأسباب قيام ونهوض وتقدم
الحضارة في أغلب الأحيان إن لم يكن كلها هي أسباب انهيار تلك الحضارة .. "
للتوضيح
هو مثال مشاهد و ملاحظ للعيان فقط يحتاج التدقيق
لا اكثر ،
هو مثال الحضارة الغربية الحالية والتي قامت في
ظل أوضاع بشرية غاية في السوء ،
فقد أفرطت المجتمعات الغربية في الروحانية
الشديدة واهتمت أيما اهتمام بالروح البشرية من خلال المسيحية التي تعتبر ديانة
روحانية بحتة، وبموجب تعميم المسيحية داخل كامل المجتمعات الغربية و محاربة أي
ديانة أخرى (إسلام أو يهودية) وأيضًا محاربة أي معتقد أخر غير مستند على المسيحية
بل و وصل الأمر حتى لتجميد المسيحية ورفض أي محاولة تجديد داخلها منذ ظهورها في
الغرب اجتياحها له في القرن الأول
الميلادي، وحتى ظهور الحركة البروتستانتية في القرن الخامس عشر، أي حوالي ١٥٠٠ سنة
من الجمود و سيطرة الكنيسة على حياة البشر ومحاربة أي محاولة علمية خارج أسوار
العقيدة المسيحية التي فرضتها الكنيس، لذلك دخل الغرب في حالات متتالية من الفشل والاضمحلال
والفقر والجهل.. والعيب ليس في الديانة و إنما في تطبيقها..
قلنا في الأعلى أن محور حركة الحضارة هو الإنسان (الروح و الجسد)..
ولما كانت الروح في الحضارة الغربية قد
أخذت ما يزيد و يفيض احتياجاتها من الروحانيات وأفرطت فغرقت واضمحلت عن سابقتها
أو ورثيتها (اليونانية و الرومانية) فيها فكان لابد من إعادة التوازن مرة أخرى إلى
محور حركة الحضارة ( لأنسان)..
كان لابد
من التوازن بين الروحانية والمادية وهذه كانت فعلًا بداية دعوة العلمانية في الغرب،
وهي محاولة خلف توازن بين المادة والروح (كانت حق مراد به باطل) لأن آثار تطور تلك
الدعوة عكست الآية.. فأصبحت المادية هي الطاغية تمامًا على الروحانية،
بل وتبدلت الأدوار، فبعدما كان هناك لاهوت كنسي يحارب ويقهر أي مادية، تحول الأمر
الآن إلى لاهوت علمي مادي يعمل كجلاد وقاتل متسلسل لأي مظهر من مظاهر الروحانية في
الغرب.
وكما كان الإفراط في الروحانية الشديدة في الغرب
مع إهمال ومحاربة المادية هو سبب انهيار الغرب لقرون طويلة، وسبب انهيار حضارته
السابقة وتراثها الفكري والعلمي وأقصد تحديدًا اليونانية..
أصبح الإفراط في المادية الأن محاربة أي محاولة ولو ضعيفة لإيجاد جانب روحي في
الحضارة الغربية، أصبح ذلك الإفراط في المادية هو السبب الرئيسي في إنهيار الحضارة
الغربية في القريب
وكلمة القريب في عمر الحضارات لا تُقاس بالأيام والشهور
والسنين القليلة وإنما تُقاس بالعقود،
فالحضارة الغربية الأن على وشك الإنهيار لأنها مثل أي حضارة لها مرحلة تكون ونمو
وشباب وشيخوخة لأنها تمثل الإنسان وتمثل مراحل حياته " هكذا يمكن تشبيهها".
الغرب أفرط في المادية ومازال يفرط فيها بشكل
مبالغ فيه وأصبحت حياة الإنسان في الغرب تدور داخل دوائر مغلقة من المادية البحتة،
في أموره الاقتصادية والثقافية وحتى الأمور الاجتماعية، فتغيرت حتى العلاقات في الغرب
"ربما أغلب العالم" تحولت إلي شكل مادي بحت فالناظر في حياة معظم الأسر
الغربية يجدها في حالة " اللاأسرة" فلا هيكل أسري متعارف عليه " أب
وأم وأبناء " في حالة أسرية اجتماعية تقوم على أسس الأسر المتعارف عليه عقب
التاريخ، فتشوهت علاقة الأب والأم بالأبناء ولم تعد كما كانت معروفة تاريخيًا من
طاعة الأبناء للأباء والأمهات طاعة مطلقة بل تبدلت إلى "اللاطاعة".
وتحول كل
فرد في الأسرة إلى كيان مستقل وحياة مستقلة لا يصح ل الآباء والأمهات التدخل فيها
ولو حتى من قبيل النصح والإرشاد، بل وتحولت الحياة الزوجية إلى الندية المطلقة كل
تلك العوامل أدت بشكل كبير إلى انهيار النظام الأسري وانهيار الأسرة هو انهيار
المجتمعات إذ أن المجتمعات لا تقوم ولا تتشكل اساسا إلا على أساس وجود الأسرة والتي
تمثل الشكل المصغر للمجتمع..
أدي إنهيار
النظام الأسري في الغرب إلى تفكك الروابط الاجتماعية واستبدالها بروابط أخرى مبنية
على قوانين تتبدل وتتغير بحسب الرغبة والأهواء الشخصية لا بحسب ما يخدم المجتمع والفرد
داخله..
فالإفراط في المادية على حساب الروحانية في
الحضارة الغربية الأن كارثته ضخمة جدًا، لأن أساس الحضارة هو الإنسان بمكوناته ومكوناته
هي الجسد "المادية" والروح، و تغليب أحدهما على الأخر يشكل خلل داخلي
كبير للإنسان، لأنه بالأساس ضد الطبيعية البشرية والتي لابد فيها من وجود الروح والمادة
ولا تصح تلك الطبيعة البشرية ولا تقوم حياة الإنسان إلا بوجود العنصرين معا
يتحركون وفق حركة متناغمة بل وشديدة التناغم..
وأي طغيان لأحدهما على الأخر يسبب الخلل في شكل
حركة الحياة و كلما زاد الطغيان لأحدهما على الاخر كلما زاد حجم الخلل.
وقلنا ونقول
أن محور ارتكاز الحضارة هو الإنسان وما قامت أسًاسا إلًّا لتضمن له حياة سليمة أو
شبه سليمة متوافقة مع خلقته وطبيعته البشرية، فإن اختل الميزان، اختلت معه الحضارة
وكلما زاد الخلل كلما زاد إختلال الحضارة حتى يصل الأمر إلى أن تُطيح إحدى كفتي
الميزان بالأخري وينهار معها كامل الميزان وتنهار معه الحضارة وهذا ما تشاهده
بنفسك الأن يحدث في الغرب..
وللحديث بقية.
COMMENTS