هناك أمثلة كثيرة تدل على أن ما يبقى من الحضارة هو التراث الفكري والإنساني والثقافي؛ لا التراث العلمي والعمارة فهي مجرد آثار لا أكثر
الإنسان والحضارة (2)
الإنسان والحضارة |
بقاء أي حضارة مرهون بالمُنتَج الثقافي التي تتركه تلك الحضارة لا
المنتج العلمي، والتاريخ مليء بالأمثلة التي تثبت صحة تلك النظرة؛ فحضارات كبيرة وضخمة
كان منتجها الأساسي هو المنتج العلمي دون الثقافي، وهو الذي ضمن لها البقاء إلى
مدة ليست بالقليلة من الزمن، لكن في النهاية انتهت هذه الحضارات، وكذا انتهى
إنتاجها العلمي معها أيضا.
فهذه حضارة بُناة
الأهرام؛ القوية الشامخة في تراثها العلمي، وقد وصلت في مجالات شتى من العلوم إلى
ما لم يصل إليه من خَلَفَها من حضارات حتى عصرنا الحالي.. تشهد الأهرامات بذلك، ويشهد
التحنيط، ويشهد الكثير والكثير على قوة تلك الحضارة من الناحية العلمية..
لكن للأسف
الشديد لا يوجد لهذه الحضارة تراث فكري أو ثقافي يمكن من خلاله إعادة إنتاجها مرة
أخري، أو حتى ضمان بقائها في زمنها مدة أطول..
وذلك على عكس
الحضارة اليونانية القديمة التي خلفت من ورائها تراثا فكريا ضخما جدا، هذا التراث
ضمن لتلك الحضارة الاستمرارية والتوغل داخل الحضارات التي أتت من خلفها، وحتى
يومنا هذا وآثار الحضارة اليونانية القديمة مستمرة من الناحية الفكرية.. فدائما ما
يذكر التاريخ "أرسطو" و"أفلاطون" والكثيرين من فلاسفة اليونان؛
بل لا يكاد يذكر التاريخ سواهم وأنهم أصحاب المدرسة الفكرية التاريخية الكبرى التي
مازالت آثارها ممتدة إلى الآن بعد قرون طويلة من فناء تلك الحضارة..
هناك أمثلة
كثيرة تدل على أن ما يبقى من الحضارة هو التراث الفكري والإنساني والثقافي؛ لا
التراث العلمي والعمارة فهي مجرد آثار لا أكثر.. آثار لا تضيف ولن تضيف إلى ما خلفها من حضارات من شيء؛ اللهم إلا بعض
الأفكار فيما يخص العمارة أو بعض العلوم القليلة.
لم أرَ حضارة جمعت بين التراث العلمي والتراث الفكري سوى الحضارة الإسلامية فقط، وهو الأمر الذي ضمن لها الاستمرار لمدة تقارب ال ١٤ قرن من الزمان منفردة كأعظم حضارات البشرية قاطبة، وذلك لما خلفته من تراث علمي ضخم هو ما بنت عليه الحضارة الغربية حضارتها الحالية، وأيضا ما تركته من تراث فكري ضخم في شتي النواحي الإنسانية، والذي سيضمن قطعا إعادة إنتاج الحضارة الإسلامية مرة أخري كبديل للحضارة الغربية المادية البحتة التي ترتكز فقط على المادة دون الاعتناء بالروح (الفكر، الثقافة، الحاجات الروحية والنفسية).. لسنا هنا نتعرَّض للحديث عن الحضارة الإسلامية، ولكن كل ما سبق كان مثالا لتوضيح فكرة لماذا ستنهار الحضارة الغربية قريبا؟!
انهيار الحضارة الغربية
الانهيار |
هذا لأن تراثها
الفكري البشري يكاد يكون معدوم، وأن منتجها الثقافي والفكري واحد من أسوء ما
أنتجته أي حضارة على مر التاريخ، إذ أنه منتج لا يخدم الروح البشرية ولا يخاطبها
على قدر ما تفهم ولا يوفر لها حاجاتها الضرورية التي تحتاج إليها، و إنما منتجا
ثقافيا إن جاز تسميته بـ (الثقافي)، هدفه الأساسي خدمة المادة والمادية التي تقوم
عليها الحضارة الغربية؛ فالفنون في الحضارة الغربية الآن مسخرة تمام التسخير لخدمة
المادية.. لتثبيت العلاقات الإنسانية على قاعدة المصالح الشخصية بما يخدم أسس
الحضارة المادية، فلا تجد في الفنون ما يعالج القضايا الهامة من الناحية الإنسانية
الصحيحة لها، وإنما من الناحية العملية البحتة التي تتعامل مع الإنسان على أنه
مجرد حيوان ناطق تسعى دائما في علاجها لقضاياه النفسية من ناحية علمية بحتة
باستخدام العقاقير الطبية والتي وإن كانت تفيد الجزء المادي للمشكلة ولكنها لا
تفيد تحت أي حال من الأحوال الجزء المعنوي الروحي المشكلة، ذلك لأن الحضارة
الغربية لم تفهم الإنسان من منطلق كونه إنسان؛ مخلوق أعلى يتحرك وفق قواعد وضعها
الله فيه ولكنها تتعامل معه بصفته كائن مادي بحت مثل أي كائن آخر من حيوان أو نبات،
لذلك فشلت الحضارة الغربية في تعاملها مع الإنسان وطبيعته البشرية الخاصة، وأدَّى
ذلك إلى ازدياد حالات الأمراض النفسية والانتحار نتيجة فشل تعامل الحضارة مع
الروح البشرية.
المادة
أما من الناحية
الأدبية؛ فالمنتج الأدبي الثقافي الذي تنتجه الحضارة الغربية الآن هو منتج مادي
بحت يركز على الغرائز والشهوات والإباحية التي لا تخدم بأي شكل سوى الجزء المادي
في الإنسان دون الجزء النفسي له، ولن أضرب أمثلة كثيرة.. يكفي فقط أن تطالع أي
منتج أدبي الآن من كتب الغرب أو حتى كتب تابعيهم من الشرقيين.. سوف تجد أن أغلب -إن
لم يكن كل- المنتج الأدبي مرتكز على الجنس والإباحية فقط وحصريا، وهذا ليس بمنتج أدبي
يمكن أن يبقى أثره في التاريخ مفيدا نافعا للإنسان، وإنما هو منتج وقتي يشبع غريزة
وقتية سرعان ما تنتهي، لأنه أولا وأخيرا قد مس الجزء المادي فقط في الإنسان، وحتى
الغرب وحضارته الحالية في التعامل مع الأدب الشرقي لا تشجع ولا تحتفي إلا بالنماذج
التي تقدم نفس أفكار الغرب المادية؛ إذ يريد الغرب صبغ الأرض وكافة الحضارات
المختلفة بصبغته الخاصة (المادية المطلقة).. للاستزادة يمكنك تتبع مشاهير الأدب والفلسفة
في الغرب، ولن تجد دعما سوى للذين يدعون إلى المادية المطلقة مثل إسبينوزا، جوتة،
نيتشة، فرويد، والقائمة طويلة.
الدين
أما في المجال
الديني وهو أعمق ما يمس الروح والكيان المعنوي داخل الإنسان؛ فالحضارة الغربية
تكاد تكون قاتل متسلسل شديد التركيز في عمله، وهو قتل أي شيء يتعلق بالدين تماما،
بأساليب مختلفة؛ منها العلمانية المطلقة التي تحارب أي مظهر تدين (أقصد فيما يخص
الإسلام والمسيحية فقط إذ أن اليهودية خط شديد الاحمرار لا يمكن تخطيه أو القرب
منه) ومن الأساليب ايضا إهانة المُقدَّسات والجرأة عليها بدافع الحريات الشخصية، ومنها
التشجيع على الإلحاد وحماية المنتسبين له تحت بند الحريات، ومنها التشكيك المستمر
في المصادر الدينية واللعب على وتر تحريف الكتاب المقدس، و لعب نفس اللعبة مع القرآن
والحديث، لكنها تفشل بشكل مستمر إذ أن القرآن والحديث محفوظان بحفظ الله لهما، وهكذا
من أساليب محاربة أي نزعة دينية تخاطب الجزء المعنوي الروحي داخل الإنسان.
COMMENTS