أصبحت شعوب الغرب مهددة بمصير باقي العالم الآخر، مما دفع تلك الشعوب إلى هذا الحِراك، كمحاولة منها لوقف هذا التصدع والانهيار

إسرائيل وورقة التوت | حرب غزة والفوضى القادمة

(مولانا العارف)

احتجاجات الجامعات الأمريكية

إن الناظر في أحداث الحرب الإسرائيلية على فلسطين، وتحديدا غزة، يرى الأمور قد انقلبت رأسا على عقب فى العالم، فالطبيعي في مثل هذه الظروف أن تتحرك الشعوب المعنية بتلك الحرب المسعورة والتي تمس جسد وكيان وعقيدة تلك الشعوب، وهي هنا الشعوب العربية والمُسلمة، إذ أنها الأوْلى بذلك التحرك لوقف تلك الحرب الشعواء وهذا الجنون المستعر الغير مسبوق.

لكن تجد أن هذا لم يحدث وإنما حدث العكس، حيث تحركت الشعوب الغربية الغير معنية بالأمر، اللهم في نطاق أنهم دافعي الضرائب التي تمول بها حكوماتهم تلك الحرب، لكن وإن كان هذا جزء من الحقيقة، إذا أن معدلات التضخم الكبيرة في الغرب قد أثّرت على شعوب تلك الدول بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية هناك نتيجة التضخم، وأن تلك التمويلات لإسرائيل كان الأولى بها جيوب تلك الشعوب، لكن هذا ليس كل ما فى الأمر وإن كان جزءا مهما منه، لكن فى رأيي أن الحراك الغربي جاء دفاعا عن قيم الحرية والعدالة التي تعيشها هذه الشعوب..

والدفاع هنا ليس مقصودا به أهل فلسطين كجزء من تلك القيم الغربية، أو أنها تستحقها بصفتها الإنسانية، ولكن تلك الشعوب تدافع عن هذا الدفاع حفاظا علي نفسها وقيمها لنفسها، وهذا نتيجة شعورها بخطر كبير وضخم محيط بها، إذ أن انهيار الغرب و قيمه في حرب غزة قد، بل والأكيد سيتتبعه انهيار تلك القيم في الغرب، وعلي شعوب الغرب، وهذا قد حدث جزئيا إبان أزمة كورونا عندما تم تقييد المجتمع الغربي وحرياته وقيمه بإجراءات عنيفة غير مسبوقة، أطلقت يد الحكومات بمنتهى القوة، وبكثير من العنف في التقييد من تلك الحريات، وهذه القيم التي تربت عليها تلك الشعوب، فالشعوب، وأخُص هنا نخبها الثقافية تعيش حالة من الصراع منذ عقود ضد الأنظمة الحاكمة التي تحولت بشكل كبير وسريع إلى أنظمة ديكتاتورية قمعية، ولكن بأشكال مختلفة عن المُتَّبع في باقي شعوب العالم الآخر من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وجاء التطبيق العملي الفعلي لتلك الدكتاتورية في ذروة أزمة كورونا والتضييق الرهيب التي شاهدته تلك الشعوب فى ظل وهم تم نسجه حول هذا الوباء المزعوم، في حين كانت ترى باقى الشعوب تحيا حياة عادية جدا مما أثر في نفسية تلك الشعوب الغربية ودق جرس إنذار شديد أن تلك الشعوب التي كان يُنظَر إليها على أنها شعوب غير متحضرة ولا تتمتع بالحرية والعدالة، أصبحت أكثر تحررا من شعوب الغرب، التي تعاني من قمع منظم بحجة وهم الوباء، هذا إضافة إلى الصراع التى تعيشه شعوب الغرب من فرض قيم جديدة عليها بالقوة و الإجبار، كقيم المِثلية والتي يرفضها أغلب تلك المجتمعات الغربية والتي أصبحت مُقنَّنة، بل وتجاوزت حد القانون لتصبح عقيدة تم ترسيخها داخل المجتمعات بمنتهى القوة والعنف القانوني.

يُضاف إلى ذلك الخوف الشديد داخل المجتمعات الغربية من التغيير الديموغرافي العنيف نتيجة الهجرات المتزايدة إلى الغرب بدافع الحروب المستمرة في باقي دول العالم الآخر، مما أثر بالسلب على تلك المجتمعات وحدث تغيرات كبيرة في ثقافتها وتكوينها الاجتماعي، ومع صعود اليمين المتطرف والقومي في بعض دول الغرب أصبحت الأزمة ثلاثية الأبعاد.

قيم جديدة تُفرَض، وقيم قديمة تنهار، ومشاكل اقتصادية، وتغيير ديموغرافى وثقافي واجتماعي إلخ، فأصبحت شعوب الغرب مهددة بمصير باقي العالم الآخر، مما دفع تلك الشعوب إلى هذا الحِراك، كمحاولة منها لوقف هذا التصدع والانهيار في قيمها التي طالما تشدَّقت بها الأنظمة الحاكمة أنها تحميها وتحيى بها، حتى جاءت إسرائيل بحربها على غزة وأسقطت ورقة التوت تماما عن تلك الأنظمة وعرَّتها تمام التعرية، أمام شعوبها أولا ثم أمام شعوب العالم أجمع، وهذا بسبب تجاوز الأنظمة كل الخطوط الحمراء الممكنة في دعم إسرائيل وآلتها العسكرية الدموية، على مدار عقود طويلة، كان أشدها آخر ٧ أشهر والتي أصبحت الأنظمة الغربية لا تدعم فقط القتل والتهجير القسري، بل أصبحت تشارك فيه إما بقواتها بشكل غير مباشر عن طريق المرتزقة على الأرض في غزة، أو بشكل مباشر، بتوفير الحماية الجوية والبرية والبحرية العسكرية لإسرائيل من أي هجمات خارجية من أي دولة أخرى أو مكان آخر كما يحدث في ضرب الغرب لقواعد انطلاق الهجمات ضد إسرائيل سواء من العراق، سوريا أو من اليمن، وأيضا الدعم السياسي بالضغط الكبير على الأنظمة العربية العميلة للضغط على غزة في المقابل، وما إغلاق معبر رفح منكم ببعيد، وما توقف دعم الأونروا ومسرحيات الإذلال الجوي إلا أدلة قوية.

مما سبق فتحرك شعوب الغرب قد لا يتوقف، بل قد يزيد يوما بعد الآخر، حتى ربما قد يشكل صداما بين تلك الشعوب وأنظمتها الحاكمة طالما استمر الدعم لإسرائيل، وقد تتحول الأمور مستقبلا إلى شكل من أشكال الفوضى في الغرب وشعوبه، وهذا ما قد نفرد له حديثاً آخر منفصلا عما قد تنتجه حرب إسرائيل على غزة في الغرب والشرق من سيناريوهات الفوضى المُحتملة.

خُلاصة القول إن تحرك شعوب الغرب لدعم ومساندة غزة، كان نابعا من خوف داخلي شديد داخل العقل الجمعي لتلك الشعوب من مآلات ومصائر قد تطالُها نتيجة استمرار تلك الحرب الدموية بهذا الشكل وبهذا الدعم من الأنظمة، والخوف الداخلي المحرك لهذا الحراك، شيء في غاية الأهمية لضمان استمرار هذا الحراك وربما فاعليته مستقبلا، في الضغط على الأنظمة لوقف الدعم لإسرائيل أو ربما فاعليته في أحداث الفوضى المتوقعة في رأيي غربيا وعربيا والتي تعتبر أداة تغيير قوية للنظام العالمي الحالي (نظام بريتون وودز).

وللحديث بقية..

اقرأ أيضا

العلو الأول والأخير | بني إسرائيل ووعد الآخرة