هذه العقلية، التي تعاملت مع الانتداب الفرنسي كشريك ضد المشروع الوطني السوري، هي نفسها التي رأت في المشروع الصهيوني فرصة تاريخية لا تعوض
ليست أقلية خائفة: تفكيك أسطورة الحياد الدرزي
![]() |
| شيوخ الدروز |
حين يتحدث السُذَّج أو المتآمرون في صالونات السياسة والأكاديميا عن "خصوصية الوضع الدرزي" وعلاقته بالكيان الصهيوني، فإنهم يبيعونك قصة أنيقة ومصقولة بعناية؛ قصة عن أقلية مسكينة، خائفة، حائرة، وجدت نفسها في قلب صراع الكبار، فاختارت "البقاء" و"الحياد" كأفضل استراتيجية للنجاة. الحقيقة، كما يكشفها التاريخ بلا مساحيق تجميل أو مصطلحات دبلوماسية، هي أبسط وأقذر من ذلك بكثير. إنها ليست قصة حياد، بل قصة انحياز مبكر ومدروس، وخيانة وظيفية مكتملة الأركان.
التاريخ لا يبدأ من حيث يريدون. القصة لا تبدأ في عام النكبة 1948، بل تبدأ من عقلية طائفية متجذرة، ترى في المحيط العربي المسلم الأكبر خطراً وجودياً، وترى في الغازي الأجنبي، أيًا كانت هويته بالأمس واليوم، حليفاً محتملاً يمكن عقد الصفقات معه. هذه العقلية، التي تعاملت مع الانتداب الفرنسي كشريك ضد المشروع الوطني السوري، هي نفسها التي رأت في المشروع الصهيوني فرصة تاريخية لا تعوض. حين جاء الغازي الجديد، وجد في هذه العقلية تربة خصبة، وشريكاً جاهزاً ينتظر الفرصة لتقديم خدماته.
في عام 1948، عام النكبة والمجزرة، وبينما كانت الجيوش العربية الفوضوية تخوض معركة الوجود الأولى، والقرى الفلسطينية تُباد وتُهجر، كان هناك من يعقد "حلف الدم" الشهير مع العصابات الصهيونية. يجب أن نتوقف هنا لندرك بشاعة المصطلح ودلالاته. لم يكن الأمر مجرد "تفاهم" لتجنيب القرى الدرزية القتال، بل كان تحالفاً استراتيجياً كاملاً. قُدم الأمان والممر الآمن للعصابات الصهيونية في مناطق حيوية، ثم قُدم ما هو أغلى: أبناء الطائفة، ليصبحوا جنوداً في جيش الاحتلال، يرتدون بزته ويحملون سلاحه ويقسمون على الولاء له. هذا في علم السياسة والتاريخ لا يسمى "براغماتية" أو "حكمة"، بل يسمى ببساطة "خيانة عظمى".
هذا الحلف لم يكن رمزياً، لقد كان وظيفياً بامتياز، وهو ما يغفل عنه الكثيرون. لقد استُخدم الجنود الدروز، أبناء الأرض العربية، كأداة فعالة وقاتلة في يد المشروع الصهيوني. هم من شكلوا "وحدة الأقليات" سيئة السمعة، وهم من زرعهم العدو في كل مفاصل جيشه وأجهزته الأمنية. هم من وقفوا على حواجز الضفة الغربية، وهم من شاركوا في قمع أهلنا في جنوب لبنان خلال فترة الاحتلال. لقد أصبحوا أداة في يد العدو، أداة أكثر فتكاً وأشد إيلاماً لأنها تتحدث العربية، وتفهم العقلية، وتعرف خرائط الأرض جيداً.
والدليل على أن هذا المسار كان "خياراً" وليس "قدراً حتمياً"، هو الموقف المشرف لأهلنا الدروز في الجولان السوري المحتل. هؤلاء الأبطال، ورغم مرور عشرات السنين تحت أبشع أنواع الاحتلال والترغيب والترهيب، رفضوا بإصرار الهوية الإسرائيلية، وتمسكوا بعروبتهم وانتمائهم لوطنهم سوريا. موقفهم هذا ليس مجرد موقف بطولي، بل هو الدليل التاريخي الدامغ الذي يفضح كل من يدعي أن التحالف مع الصهاينة كان الخيار الوحيد المتاح للبقاء. لقد أثبت دروز الجولان أن هناك خياراً آخر دائماً: خيار الكرامة والوفاء.
واليوم، حين يخرج علينا من يتحدث عن "مظلومية الدروز" في سوريا، مطالبًا بدعم عربي، يجب أن نسأل ببساطة: عن أي دروز تتحدثون؟ عن الأبطال الصامدين في الجولان الذين يمثلون شرف الأمة؟ أم عن ورثة "حلف الدم" الذين أثبتوا عبر سبعين عاماً أن ولاءهم الأول والأخير ليس للعروبة، بل لمشروع وظيفي يضمن لهم البقاء كسادة صغار في حماية السيد الأكبر؟
التاريخ ليس بوفيه مفتوحاً ننتقي منه ما يعجبنا ونهمل ما يحرجنا. إنه سجل دامٍ ومترابط، والخيانة فيه لا تسقط بالتقادم، بل تظل وصمة عار تلاحق أصحابها وكل من يحاول تبريرها أو تجميلها.

COMMENTS