إن القول بأن الغرب يستغل الأقليات ليس نظرية مؤامرة، بل هو قراءة واقعية لأدبيات العلوم السياسية والاستراتيجية الغربية نفسها
الهندسة السياسية لاستغلال الأقليات: كيف تُستخدم ورقة الحقوق لتفتيت الشرق الأوسط؟
![]() |
حدود الدم |
في المشهد الجيوسياسي المعقد للشرق الأوسط، لا تحدث التحولات الكبرى صدفة. إنها غالبًا نتاج عمليات طويلة من "الهندسة السياسية والشعبية"، وهي علوم تسعى إلى تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي لتحقيق أهداف استراتيجية. ومن أهم الأدوات وأكثرها فاعلية في هذا المجال، كانت ولا تزال "ورقة الأقليات الدينية والعرقية".
إن استخدام هذه الورقة
لا يهدف بالضرورة إلى تحقيق العدالة لهذه الأقليات، بل إلى توظيف مظالمها الحقيقية
أو المتصورة كرافعة لتفكيك الدول من الداخل، والسيطرة على الحكومات، ورسم خرائط
جديدة على "حدود الدم".
المنطلقات: لماذا الأقليات أداة
فعالة في الهندسة السياسية؟
لكي نفهم كيفية استغلال الأقليات، يجب أن
نحلل أولاً لماذا هي "أداة" قابلة للاستخدام بفاعلية من منظور القوى
الخارجية.
تعتمد الهندسة الاجتماعية هنا على عدة منطلقات أساسية:
1. المظلومية التاريخية (Historical
Grievances):
تمتلك معظم الأقليات في المنطقة سردية تاريخية
من المظالم، سواء كانت حقيقية ناتجة عن سياسات تمييزية أو متصورة يتم تضخيمها. هذه
المظالم هي المادة الخام التي تعمل عليها القوى الخارجية، فهي لا تخلقها من العدم،
بل تستثمر فيها وتغذيها.
2. صناعة "الهوية البديلة" (Alternative
Identity):
تعمل الهندسة الاجتماعية على تحويل الولاء
الأساسي للفرد من "الهوية الوطنية" الجامعة (أنا عراقي، أنا سوري) إلى
"الهوية الفرعية" (أنا كردي، أنا مسيحي، أنا درزي أولاً). يتم ذلك عبر
الإعلام الموجه، والمنظمات غير الحكومية التي تركز على "حقوق المكونات"،
والدعم المالي والسياسي للنخب التي تتبنى خطابًا انفصاليًا. يصبح الانتماء للطائفة
أو العرق هو مصدر الأمان والهُوية، وليس الدولة.
3. سيكولوجية "الحامي الخارجي" (The
External Protector):
عندما يتم إقناع أقلية ما بأن الدولة الوطنية هي
مصدر تهديدها وأن بقاءها مرهون بحماية قوة خارجية، يتم كسر العقد الاجتماعي بين
المواطن ودولته. تصبح هذه القوة الخارجية (الغرب في هذه الحالة) هي الضامن
والمُنقذ، مما يجعل الأقلية أداة طيعة لتنفيذ أجندتها مقابل وهم الحماية والتمكين.
4. وعد تقرير المصير (The
Promise of Self-Determination):
الإغراء الأكبر الذي يُقدَّم للأقليات هو وعد
الحكم الذاتي أو الدولة المستقلة. هذا الوعد يحول أي حركة حقوقية مشروعة إلى مشروع
سياسي انفصالي يخدم هدف تفكيك الدولة الأم.
الأقليات في الحروب الهجينة:
استراتيجية متعددة المراحل
الحروب الحديثة ليست حروب جيوش تقليدية
فقط، بل هي "حروب هجينة" (Hybrid Warfare)
تستخدم أدوات متنوعة. ويتم توجيه الأقليات ضمن هذا الإطار عبر مراحل مدروسة:
·
المرحلة الأولى: الحرب الناعمة والإعلامية (Soft
Power & Information Warfare):
تبدأ بتركيز
وسائل الإعلام الغربية والمنظمات الحقوقية على "معاناة" أقلية معينة،
وعزل هذه المعاناة عن السياق العام الذي قد يعاني فيه الجميع. يتم إنتاج تقارير
ودراسات تضخم من حجم الاضطهاد، وتُستخدم كذريعة للضغط السياسي على الحكومات.
·
المرحلة الثانية: الدعم السياسي واللوجستي (Political
& Logistical Support):
يتم دعم
شخصيات سياسية من داخل الأقلية تتبنى الخطاب المطلوب، وتُمنح منابر دولية للتحدث
باسم "شعبها المضطهد". بالتوازي، يتم تقديم دعم مالي لمنظمات المجتمع
المدني التي تعزز الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.
·
المرحلة الثالثة: التسليح والتحويل إلى وكيل (Weaponization
& Proxy Conversion):
في مرحلة
متقدمة، خاصة عند ضعف الدولة المركزية، يتم تقديم الدعم العسكري المباشر أو غير
المباشر. تُسلَّح فصائل من هذه الأقليات تحت شعارات مثل "محاربة
الإرهاب" (كما حدث مع دعم فصائل كردية في سوريا والعراق لمحاربة داعش) أو
"الدفاع عن النفس". هنا، تتحول الأقلية إلى "وكيل محلي" (Proxy)
ينفذ مهامًا عسكرية تخدم مصالح الراعي الخارجي، وفي المقابل يحصل على حماية ومكاسب
على الأرض.
مثال حديث: الدعم الأمريكي والغربي
لوحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في سوريا. تم تقديمهم
للعالم كقوة علمانية فعالة ضد داعش، ولكن هذا الدعم لم يكن خيريًا. لقد خلق منطقة
حكم ذاتي كردية بحكم الأمر الواقع في شمال سوريا، مما أدى إلى تغيير ديموغرافي
وسياسي هدد وحدة الأراضي السورية، وخلق ورقة ضغط دائمة ضد دمشق وأنقرة وطهران على
حد سواء.
المخطط الأكبر: من خرائط لويس
وبيترز إلى "الشرق الأوسط الجديد"
هذا التحرك الممنهج ليس عشوائيًا، بل
يستند إلى رؤى استراتيجية قُدِّمت منذ عقود.
·
مخطط برنارد لويس (Bernard
Lewis Plan):
المؤرخ والمستشرق البريطاني-الأمريكي برنارد
لويس لم يرسم خريطة بالمعنى الحرفي، ولكنه طرح فكرة أن الحدود الاستعمارية
(سايكس-بيكو) مصطنعة ومصيرها التفكك. لقد تنبأ بأن الشرق الأوسط سيعود إلى
"فسيفساء" من الكيانات العرقية والدينية الصغيرة، فيما يُعرف
بـ"بلقنة" أو "لبننة" المنطقة. هذه الفكرة قدمت الأساس الفكري
والنظري لمشاريع التقسيم، حيث أصبح تفكيك الدول يُقدَّم على أنه "عودة إلى
الوضع الطبيعي" وليس مؤامرة.
·
خرائط رالف بيترز (Ralph
Peters' Maps):
في عام 2006، نشر المقدم المتقاعد بالجيش
الأمريكي رالف بيترز في "مجلة القوات المسلحة" (Armed
Forces Journal) خريطة شهيرة بعنوان "حدود الدم"
(Blood Borders). هذه الخريطة، ورغم أن الإدارة الأمريكية
نفت تبنيها رسميًا، كشفت عن طريقة تفكير مؤثرة في الدوائر العسكرية والاستراتيجية
الأمريكية. أظهرت الخريطة شرق أوسط مُعادًا تشكيله بالكامل: كردستان حرة، دولة
عربية شيعية، تقسيم السعودية، وغيرها. الهدف المعلن كان "تصحيح الظلم
التاريخي"، لكن الهدف الحقيقي كان خلق دول وظيفية صغيرة وضعيفة، يسهل السيطرة
عليها وتتنافس فيما بينها، مما يضمن أمن إسرائيل وتدفق النفط وهيمنة الغرب.
هذه الخرائط والمخططات لم تكن مجرد تمرين
أكاديمي، بل شكلت بوصلة استراتيجية لمفهوم "الفوضى الخلاقة"
و**"الشرق الأوسط الجديد"** الذي روّجت له الإدارة الأمريكية في عهد
جورج دبليو بوش.
دور الثورات: تفكيك القديم
لتسهيل المهمة
شكلت ثورات الربيع العربي التي اندلعت في
2011 فرصة ذهبية لتسريع هذه المخططات. قبل الثورات، كانت الأنظمة الاستبدادية
القديمة (رغم كل مساوئها) تفرض سيطرة مركزية قوية وتضبط النسيج الاجتماعي بقبضة
حديدية، مما صعّب من مهمة القوى الخارجية. لكن مع انهيار هذه الأنظمة أو إضعافها
الشديد، حدث ما يلي:
1. فراغ السلطة (Power Vacuum): أدى انهيار
أجهزة الأمن والدولة المركزية إلى فراغ هائل.
2. صعود الفاعلين من غير الدول (Rise
of Non-State Actors): في هذا الفراغ، ازدهرت الميليشيات والجماعات
المسلحة، بما فيها تلك القائمة على أساس عرقي أو ديني، والتي وجدت في الدعم
الخارجي فرصة للنمو والسيطرة.
3. تسميم الحراك الشعبي: تم تحويل
المطالب الوطنية الجامعة للثورات (حرية، كرامة، عدالة اجتماعية) إلى صراعات طائفية
وعرقية. في سوريا، تحولت الثورة من انتفاضة شعبية إلى حرب أهلية ذات أبعاد طائفية
ودولية. وفي ليبيا، تحول الصراع ضد القذافي إلى حرب بين القبائل والمناطق.
خاتمة: منطق لا يسهل نقده
إن القول بأن الغرب يستغل الأقليات ليس
نظرية مؤامرة، بل هو قراءة واقعية لأدبيات العلوم السياسية والاستراتيجية الغربية
نفسها. المنطق هنا ليس أن الغرب يخلق المشاكل من الصفر، بل أنه يستثمر ببراعة في خطوط الصدع الموجودة أصلاً.
لا يمكن نقد هذا المنطق بسهولة لأنه لا ينفي المظالم الحقيقية التي تعاني منها الأقليات، بل يوضح كيف يتم توجيه هذه المظالم وتحويلها من قضية حقوقية داخلية إلى أداة جيوسياسية خارجية. الحل لا يكمن في إنكار حقوق الأقليات، بل في بناء دولة حقيقية، قوية وعادلة، تحتضن جميع مكوناتها وتفوت الفرصة على كل من يسعى لاستخدام أبنائها كوقود لحروبه ومخططاته. فالحصانة الحقيقية ضد الهندسة السياسية الخارجية تبدأ من الداخل.
COMMENTS