فهم ما يجري في أروقة الحكم في عالمنا العربي لا يمكن أن يتم عبر متابعة نشرات الأخبار الرسمية، بل عبر فهم الآليات الخفية
فن صناعة التابع: دليل مختصر للسيطرة على العالم الثالث
![]() |
صور ولي العهد السعودي مع جيفري إبستين |
تظهر صورة فاضحة، فيتساءل السذج والطيور على أشكالها تقع: "هل هي حقيقية؟". بينما يسأل من يقرأ ما بين السطور سؤالاً آخر، أكثر برودة وأهمية: "لماذا سُمح لهذه الصورة بالظهور الآن تحديداً؟".
إن فهم ما يجري في أروقة الحكم في عالمنا العربي لا يمكن أن يتم عبر متابعة نشرات الأخبار الرسمية، بل عبر فهم الآليات الخفية والهادئة التي تُستخدم لصناعة التبعية وضمان الولاء. هذه الآليات ليست مجرد مؤامرات، بل هي أقرب إلى علم ممنهج له أدواته ومراحله. السيطرة على أمة لا تبدأ بإرسال الجيوش، فهذا أسلوب بدائي ومكلف، بل تبدأ بالسيطرة على عقل وحياة من سيحكم هذه الأمة.
المرحلة الأولى: المشتل.. صناعة العقول
السيطرة تبدأ مبكراً، ليس في القصر الرئاسي، بل في الفصول الدراسية في جامعات الغرب المرموقة أو أكاديمياته العسكرية العريقة مثل "ساندهيرست". يُرسل أبناء النخبة الحاكمة، الأمراء والوزراء المستقبليون، إلى هناك. الهدف ليس مجرد التعليم، بل هو عملية "غمر ثقافي" عميقة.
هنا لا نتحدث عن غسيل دماغ فج، بل عن عملية أكثر نعومة وذكاء. يتم تعليمهم التاريخ من وجهة نظر غربية، والسياسة من منظور غربي، والاقتصاد بقواعد غربية. كما يشرح إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، يتم تقديم الغرب كنموذج للعقلانية والتقدم، والشرق كتراث يجب "تحديثه" على الطريقة الغربية. النتيجة هي تخريج جيل من القادة المستقبليين الذين يشعرون نفسياً وثقافياً بأنهم أقرب إلى لندن أو واشنطن منهم إلى شعوبهم. هم يتحدثون لغة أسيادهم، ويفكرون بمنطقهم، ويرون أن مصلحة بلادهم تكمن حتماً في التحالف مع هذا النموذج "المتحضر". لقد تم تجهيز العقل لقبول التبعية طواعية.
المرحلة الثانية: اللجام.. الفخ الاقتصادي
بعد تجهيز العقل، يأتي دور تقييد حركة الدولة نفسها. الأداة هنا هي الاقتصاد، وتحديداً "ديون التنمية". أفضل من شرح هذه الآلية هو جون بيركنز في كتابه الصادم "اعترافات قاتل اقتصادي" (Confessions of an Economic Hit Man).
الآلية تعمل كالتالي: يأتي "الخبراء" من المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) ويقنعون دول العالم الثالث بضرورة بناء مشاريع بنية تحتية ضخمة (محطات كهرباء، مطارات، طرق سريعة) لـ"تحديث" البلاد. يتم تمويل هذه المشاريع عبر قروض هائلة، بشرط أن تذهب عقود التنفيذ إلى شركات غربية كبرى.
النتيجة؟ تستفيد النخبة الحاكمة من المشاريع والعمولات، بينما تغرق الدولة في ديون لا تستطيع سدادها أبداً. وهنا يتم إحكام اللجام. حين تحتاج قوة كبرى إلى تصويت في الأمم المتحدة، أو قاعدة عسكرية، أو تسهيلات لمرور قواتها، أو بيع النفط بسعر محدد، يصبح هذا الدين هو أداة الضغط التي لا يمكن مقاومتها. سيادة الدولة الاقتصادية تصبح مجرد حبر على ورق، وقرارها السياسي يصبح مرهوناً برضا الدائنين.
المرحلة الثالثة: الخنجر.. ملف الابتزاز
هذه هي الأداة الأكثر قذارة وفاعلية، وهي ما يمثله ملف "جيفري إبستين" وأمثاله. لا يجب النظر إلى هذه الشبكات على أنها مجرد شبكات دعارة للمتعة الشخصية للأثرياء، بل كعمليات استخباراتية متقدمة. جيفري إبستين لم يكن مجرد منحرف ثري، بل كان يدير "مصيدة عسل" بحجم مؤسسي، تستهدف شخصيات نافذة حالية ومستقبلية.
يتم دعوة الشاب الثري، أو الأمير، أو الوزير إلى هذا العالم من المتع المحرمة. يتم توفير كل شيء، والأهم، يتم توثيق كل شيء بالصوت والصورة. لا يُستخدم هذا الملف بالضرورة في اليوم التالي. بل يتم أرشفته بعناية، ليصبح خنجراً صامتاً يُرفع فوق رقبة هذا الشخص لبقية حياته السياسية.
إذا فكر يوماً في الخروج عن النص، أو اتخاذ قرار لا يرضي أسياده، يتم تذكيره بالملف. قد "يُسرّب" خبر بسيط في الإعلام، أو تظهر شاهدة من العدم. هذا يفسر الكثير من القرارات السياسية التي تبدو غير منطقية أو خيانية في عالمنا العربي.
الخلاصة
هكذا تُصنع التبعية في القرن الحادي والعشرين. إنها شبكة محكمة من ثلاثة خيوط: عقل تم تشكيله في الغرب، اقتصاد مقيد بالديون، وحياة شخصية مرهونة بملف فاضح. الحاكم في كثير من بلادنا لا يحكم بإرادة شعبه، بل بالخوف من انكشاف ملفه، والعجز عن سداد ديونه، وبتعليمه الذي أقنعه أن هذا هو المسار الوحيد الممكن.
COMMENTS