في العام 1958م منح "عبد الناصر" "توفيق الحكيم" جائزة قلادة النيل، وبعد ذلك بعامين فقط منحه جائزة الدولة في الآداب

 عودة الوعي | توفيق الحكيم وخلاف متأخر مع عبد الناصر

 (بقلم / عطار نيسابور)

الكاتب توفيق الحكيم

الكاتب المدلل

في شبابه؛ وقبل حركة 23 يوليو؛ قرأ الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" رواية (عودة الروح)، وقد تأثر بها كثيرا، لدرجة أنه ظل يرواده في أحلامه صورة البطل الشعبي، الذي سيخرج ليعيد العِزَّة والكرامة لهم على حد تعبيره أثناء حادثة المنشيَّة الشهيرة..

كان هذا من أهم أسباب قوة العلاقة بين "جمال عبد الناصر" و"توفيق الحكيم"؛ حيث أصبح الثاني هو الكاتب المُدلَّل للنظام الناصري.

في العام 1958م منح "عبد الناصر" "توفيق الحكيم" جائزة قلادة النيل، وبعد ذلك بعامين فقط منحه جائزة الدولة في الآداب؛ رغم محاولات "الحكيم" المسميتة للابتعاد عن السُلطة والهروب منها.. لكن في هذه الفترة من عُمْر البلاد؛ لا سبيل للهروب من هذه السُلطة إلا إلى المعتقلات.

اقرأ أيضاً: ما قبل الزمان والمكان | رحلة وراء أستار الغيب

علاقة الحكيم بالسلطة

وصف "توفيق الحكيم" هذه العلاقة قائلا:

لقد كانت ثقتي بـ"عبد الناصر" تجعلني أحسن الظن بتصرفاته، وألتمس له التبريرات المعقولة.. وعندما كان يُخالِجُني بعض الشك أحيانا، وأخشى عليه من الشَطَط والجور؛ كنت ألجأ إلى إفهامه رأيي عن بُعد وبرفق، وأكتب شيئا يَفْهم منه ما أرمي إليه.. فقد خفت يوما أن يجور سيف السلطان في يده على القانون والحرية، فكتبت (السلطان الحائر)، ثم خفت أن يكون غافلا عما أصاب المُجتمع المصري قبيل حرب 1967م من القلق والتفكك.. فيعتمد عليه في الإقدام على مغامرة من المغامرات؛ فكتبت (بنك القلق).. وهي كلها كتابات مُتَرَفِّقَة بعيدة عن العُنف والمرارة، لمجرد التنبيه لا الإثارة، وكما علمت؛ فقد قرأها وفهم ما أقصده منها، ولكنه فيما ظهر لم يأخذ بها، بل اندفع في طريقه.

استمرت هذه العلاقة لا يشوبها القلق ولا الاضطراب حتى وفاة "عبد الناصر"، وهذا ما جعل "الحكيم" يبوح بمكنون صدره.

انقلاب "الحكيم" وعودة الوعي

في العام 1972م؛ وبعد وفاة الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" بعامين فقط؛ نشر الكاتب والمفكر الكبير "توفيق الحكيم" طبعته الثانية من كتاب (عودة الوعي).. لكن جاءت هذة الطبعة مختلفة عن سابقتها؛ حيث هاجم "توفيق الحكيم" الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر"، وطالب بفتح ملف ثورة 1952، وتسليط الضوء على الأخطاء والكوارث التي تسببت فيها..

فقال"الحكيم" في مقدمة الكتاب:

غضب الناصريون داخل مصر و خارجها، وهاجوا وماجوا كما لو أن الناصرية دينا مقدسا لا ينبغي المَساس به، وكما لو أن "عبد الناصر" فوق مستوى البشر؛ ليس لمخلوق أن يحاسبه على خطأ؛ ولو كان شخص "جمال عبد الناصر" هو المقصود لكان من واجبنا التسامُح..

لكن "عبد الناصر" ليس شخصا.. إنه فترة حكم طويل دَمَغ مصر كلها بطابع مُعَيَّن، ولم يزل هذا الطابع من بعده يدمغ لحم مصر كأنه الوشم الذي يطمس معالم ما تحته

شَكَّل كتاب (عودة الوعي) صدمة كبيرة لعدد من الناس كانوا ينظرون إلى "توفيق الحكيم" على أنه الأب الروحي لثورة يوليو، ولم يكن من المُتَوقَّع أن يَصدُر هذا الكلام عن نفس الشخص الذي طالب بإقامة أكبر تمثال لـ"عبد الناصر" يوما ما في ميدان التحرير..

هذه الطبعة من كتاب (عودة الوعي) تسببت في واحدة من أشرس المعارك الأدبية في مصر.

اقرأ أيضاً: إحسان عبدالقدوس | ما بين الوقاحة وعفة القلم

معركة الأدباء والمفكرين

كان أطراف هذه المعركة "توفيق الحكيم" والروائي الكبير صاحب جائزة نوبل "نجيب محفوظ" من جهة؛ بينما على الجهة الأخرى كان هناك الصحفي الكبير "محمد حسنين هيكل" و"محمد عودة"..

نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم

وَصَف الكاتب "محمد عودة" حينئذٍ "توفيق الحكيم" بالنفاق، وأنه أكثر كاتب انغمس إلى آخره في عصر "عبد الناصر"، واستفاد من تمجيد ومباركة إنجازاته، وقال "عودة" ساخرا:

في العصر الفاسد كان "توفيق الحكيم" يحتل أرفع مكان يحتله كاتب؛ بل كان الكاتب المُفَضَّل المُدَلل

استمرت هذه المعركة سجالا بينهم؛ حتى تدخل الصحفي الكبير"محمد حسنين هيكل" واصفا "الحكيم" بالجُبْن والخِسَّة، وأنه كالفأر المذعور؛ كما وصف "هيكل" كل من هاجم "عبد الناصر" بعد وفاته بـ (الأشباح الخائفة)

رد عليه "توفيق الحكيم" قائلا:

لكن؛ هل توجد الأشباح الخائفة الضعيفة إلا في جو من الفزع والرعب؟!

لماذا إذن لا توجد أشباح خائفة ضعيفة في بلاد مثل فرنسا وانجلترا، وغيرها من البلدان التي لا يعيش أهلها في الرعب والهلع من التعذيب والاعتداء على الأعراض؟!

لم تمر سوى أسابيع معدودة من هذه المعركة حتى نشر "نجيب محفوظ" رواية "الكرنك"؛ متحدثا فيها عن بشاعة المعتقلات والتعذيب، وما كان يحدث في سجون "حمزة البسيوني" و"عبد الناصر".

قام على إثر ذلك الكاتب" محمد عودة" من جديد مهاجما "نجيب محفوظ" و" توفيق الحكيم"؛ ووصفهم بالساقطين، وأن "عبد الناصر" لن تضره مثل هذه الترهات في قبره.

النهاية

استمرت هذه المعركة طويلا، وتدخَّل الكاتب "لويس عوض" من أجل الصلح بين كل أطرافها، لكنه لم ينجح..

في النهاية؛ توقفت تلك المعركة الأدبية حامية الوطيس بسبب اشتعال أجواء حرب أكتوبر 1973م.