السرداب(3) | الباشا وصناعة النُخَبْ (بقلم / مولانا العارف) محمد علي باشا صناعة النُخَبْ مقدمة: ما هي النُخَبْ؟! وما هيَّ أهميتها في بن...
السرداب(3) | الباشا وصناعة النُخَبْ
صناعة النُخَبْ
مقدمة: ما هي النُخَبْ؟! وما هيَّ أهميتها في بناء المجتمعات والدول والحضارات؟!
في عالم النُخَبْ هناك نُخبة سياسية، ونُخبة اقتصادية، ونُخبة ثقافية، ونثخبة
إعلامية..إلخ
يكونوا جميعاً من النُخبة الحاكمة ، وهي النُخبة الحاكمة وليست المتحكمة؛ فهناك
سُلطة ونُخبة أعلى من كل النُخب المذكورة، هي النُخبة التي كوَنَتْ ذهنية وعقلية كل تلك النُخَبْ، فهي الروح لتلك العقلية وهذه
الذهنية.
وحتَّى لا تستصعب الأمر؛ نضرب لك المثل لإيضاح ذلك.
الأنبياء والمُرسلين، هم النُخبة
المتحكمة التي اختارت ودرَّبت وكوَّنت عقلية وذهنية النُخَبْ ( السياسة ،
الاقتصادية ، الثقافية.. إلخ )، ثم انطلقت هذه النُخَبْ لتُكَوِّن المجتمعات، ثم الحضارات،
ثم الدول، ثم الإمبراطوريات.
وأمَّا كيف تمَّ اختيار الأنبياء؛ لتقود النُخَبْ البشرية، وتكون هي النخبة
المُتَحَكِمة والمُؤسِسِة؛ فهذا من علم الله في بشره، وهو سبحانه وتعالى يختار
منهم من يشاء ليرسله برسالته، ويدعمه بوحيه: لينشر تلك الرسالة إلى من أُرسِلَ
إليهم من البشر؛ لهدايتهم لطريق الله.
ونُبَسِّطْ المثل ولنا مرجع من كلام الصحابي الجليل "عبد الله بن
مسعود" رضي الله عنه حينما قال (أن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صل
الله عليه وسلم- خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب
العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون
على دينه.. إلى أخر ما قال)، فهذا الأثر هو دليلنا على إيجاد النُخَبْ، ودورها في
بناء المجتمعات والحضارات والدول.
ومع الأنبياء كانت تنزل الكتب، وهي الدساتير (ولا أحب هذا التعبير لكني
مضطر إلى استخدامه لسهولة فهمه)
فالكتب تُمَثِل الدساتير التي تَصْدُر عنها القوانين والتشريعات؛ التي تُسَيِّر
حياة من أُرسل لهم الأنبياء، وتبني العقلية والذهنية؛ التي تقوم عليها النُخَبْ،
والتي يُقاد بها الناس
..
لذلك كان بناء النُخَبْ، هو الركيزة الأساسية من بعثة الأنبياء والمرسلين؛
لأن تلك النُخَبْ، وكما ذكرنا هم من يقودون الأُمم بعد موت الأنبياء .
أهمية النُخَبْ
يُصبح بناء النُخَبْ، هو الضرورة
القصوى والوقتية والُملحة والحتمية؛ لبناء أي مجتمع وأي دولة وأي حضارة.
فبدون النُخَبْ تنتشر الفوضى في كل شيء، ويتحول البشر إلى همج، بلا قادة ولا
مُحرِّكين ، بلا طريق ولا غاية ولا هدف
لوجودهم على سطح الأرض.
محمد علي والنُخَبْ
والأن وقد عرفت ما هي النُخَبْ، وكيفية صناعتها وأهمية دورها في كامل
الحياة. ننقلك إلى كيف بنا "محمد علي" باشا النُخَبْ؛ التي تساعده في
تحقيق أهدافه.
وأهداف "محمد علي" باشا كما وضَّحتُ في (السرداب 2)، لم تكن مجرد
الإستئثار بحكم مصر والشام بعيداً عن الإمبراطورية العثمانية، كما يُشاع في التاريخ
الرسمي الذي نتلاقه في المدارس، ولكن كانت أهداف الباشا أكبر وأعمق من ذلك، وهي
هدم تلك الإمبراطورية؛ لإيجاد موطئ قدم، ووطن ودولة لأولئك الذين هام بعشقهم وحبهم
من طرف واحد، ومن أجلهم وبتعليماتهم؛ لأنهم النخبة المتحكمة والسلطة الحاكمة؛ التي
أوصلته إلى حكم البلاد، وأنشأت له جيش قوي، كما أنشأت القناطر الخيرية.
فقد عرفنا في (السرداب2)، أنَّ "محمد علي" باشا هو من أنشأ
الجمعيات الماسونية، بل وأنفق عليها من ماله وخزائنه؛ لتساعده على هدم العثمانية.
لكن حتي يستطيع الباشا فعل ذلك، لابد أولا من إنشاء نُخبة فكرية و ثقافية؛
ينتزع بها الباشا الأفكار العتيقة، التي كانت داخل المجتمع، والمُتمثلة في أنَّ العثمانية
هي خلافة، وأن السلطان هو الخليفة و الحاكم الشرعي، ولا يجب الخروج عليه ولا
محاربته؛ لأنَّه ولي الأمر وفي رقابنا بيعة له، وكثير من الافكار الأخرى البالية
القديمة، والتي من ضمنها أيضاً أنَّه لا فرق بين مصري وآخر.. فلا فرق بين مصري أو
يمني أو شامي أو عربي أو كردي، فكلنا مسلمون تحت حكم دولة واحدة مسلمة.
فكان لابد من صناعة نُخبة جديدة بدل النُخَبْ القديمة، التي تنادي بتلك الأفكار
وتقود النخبة الجديدة الافكار الجديدة.
أي تقود المجتمع إلى القومية المصرية، المنفصلة تماما عن الهوية العربية
والإسلامية المُوَحَّدة تحت قيادة دولة واحدة.
وقد ساعد الباشا في تلك الفكرة القديمة الجديدة. لماذا نقول قديمة جديدة؟!
لأن الفكرة بالأساس مستوحاه من الأب الروحي للباشا وهو "نابليون بونابرت".
فعند مجيء "نابليون" إلى مصر، وفشل حملته عليها، وهروبه منها؛ أرسل رسالة إلى الحاكم الذي تركه خلفه وهو الجنرال "كليبر"، كان نص هذه الرسالة:
ستظھر السفن الحربية بلا ريب في ھذا الشتاء أمام الإسكندرية، أو البرلّسُ أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلّس. اجتھد في جمع خمسمائة شخص، أو ستمائة شخص من المماليك، حتى إذا لاحت السفن الفرنسية، تقبض عليھم في القاھرة أو الأرياف، وتسفّرھم إلى فرنسا. وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك، فاستعض عنھم برھائن من الغرب ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل ھؤلاء إلى فرنسا، يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاھدون في أثنائھا عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر، يكون لنا منھم حزبٌ يُضّم إليه غيرھم.
كليبر |
خاتمة
وهكذا أخذ الباشا بنصيحة عرَّابه، وبدأ في تشكيل النُخَبْ،
في معامل مُعدة سلفاً لاستقبال وتأهيل هذه النُخَبْ، بما يضمن لها صناعة جيدة و إتقان
ومهارة خاصة، ولك أن تتخيل القروي الساذج الذي أبهرته أضواء المدينة عندما يذهب
إلى بلادهم وما يحدث له.
ناقشنا في السرداب 3 كيف بدأت صناعة النُخَبْ.
على أمل اللقاء في السرداب 4 عن من هم النخب التي صنعها
الباشا، وما هو أثرهم وكيف وأين وإلى! وكل الأسئلة التي تدور بداخلك.
والله من وراء القصد.
COMMENTS