هذا الكتاب علامة فارقة وصفحات رائقة النبع يرى فيها القارئ دلالات وتنبیهات أدبية وتصحيحات ثقافية وإزالة للتضليلات التاريخية، فهو مخطوط في الوعي الأدبي.

 مطرقة شيخ العربية (١) | رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.

 (بقلم/ زيتون)

رسالة في الطريق الى ثقافتنا

هذه مراجعة قديمة كتبتها منذ ست سنوات بعد القراءة السابعة لهذا الكتاب. وأذكر كيف كانت القراءة الأولى في أواخر العام ٢٠١٠ صادمة لي، كانت العدسات السلفية ملتصقة بعيني قبل تحليل الأمور، النظر لها والتعاطي معها. ومثَّل الكتاب مطرقة شديدة وقعت على رأسي لتفتح الباب لمثيلاتها من المطارق لتفك الالتصاق الحاصل بيني وبين هذه العدسات -وليس العقيدة بالطبع-!

اقرأ أيضًا: كتاب (الماجريات) | نظرة وتلخيص

هذا الكتاب علامة فارقة وصفحات رائقة النبع يرى فيها القارئ دلالات وتنبیهات أدبية وتصحيحات ثقافية وإزالة للتضليلات التاريخية، فهو مخطوط في الوعي الأدبي والثقافي والتاريخي.

 

 على غير المعتاد، بدأ المؤلف كتابه -والكتاب أصلا جزء من كتاب المتنبي للمؤلف نفسه- بعرض حالة خاصة مر بها ثم انطلق من خلالها لتقرير أصول وأعمده لنا لنتلافى فساد "المنهج الأدبي" الذي أوذي منه الكاتب سابقا. فيبرز لنا شطرى "ما قبل المنهج" الأدبي الشامل للغة والثقافة والدين والشعر والتاريخ وما إلى ذلك، فيشير إلى "المادة" أي النصوص المنظورة في هذا الأمر، ثم "التطبيق" أي القراءة ومن بعد ذلك البحث ومن ثم الفهم والنقد وغيره.

ثم يبدأ بعد ذلك في تقرير مداخل هذا الميدان الكبير وأن هناك ثلاثة مداخل رئيسية لذلك حسب الأدباء والمفكرين وهذه الأبواب هي "اللغة" و"الثقافة" و"الأهواء" وأخطرها هو الباب الثالث.

 

محمود شاكر أبو فهر

 ثم يبدأ في توضيح كل باب من هذه الأبواب ومن أبدع ما قال الكاتب هو التعريف بالثقافة الحقيقية والتنبيه على أنَّ هناك خداع ينبغى الحذر منه في هذا الباب فيقول: "فالعاصم يأتى من قبل الثقافة التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به = لا من حيث هي معارف متنوعة تدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها والالتزام بما يوجبه ذلك الإيمان، ثم من حيث هي بعد ذلك انتماء إلى هذه الثقافة. انتماء ينبغى ان يدرك مع تمام الإدراك أنه لو فرط فيه لأذاه تفريضه إلى الضياع والهلاك، ضياعه هو، وضياع ما ينتمي اليه"

 اقرأ أيضًا: تحت المظلة | كيف رسم نجيب محفوظ بقلمه سيريالة النكسة؟!

ويضيف المؤلف:

"ورأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام الذي هو فطرة الإنسان.." وبعد تقریر وتوضيح تلك الأبواب باعتبار الأصل الأخلاقي فيها يضيف:

" فهذا الأصل الأخلاقي هو العالم الحاسم الذي يمكن لثقافة الأمة بمعناها الشامل، ان تبقى متماسكة مترابطة تزداد على الأيام تماسكًا وترابطًا"

 ولعل الأهمية الكبرى لمقدمة الكتاب التي تقع في ثلاثين صفحة ترجع لسببين :

1-  أنَّها تقرير عملي أدبي سطره المؤلف نظريًا، ثم انخرط في إعمال ما قرره على نماذج مختلفة.

 

2-  أنَّه بدأ بتقرير الحلول ثم استعراض المشكلات مجربًا عليها الحلول المقررة، على عكس من يبرزون المشكلات ثم يبدأون في البحث عن تفكيكها بحثًا وحلاً وهو ما ينتج عنه حلولًا مناسبة للمشكلات المحدده لا حلولًا ومفاتيح عامة دائمة.

 

يبدأ بعد ذلك وبشكل عبقري في تناول العديد من الحوادث التاريخية وبسطها توضيحًا وإزالة للتزييف والخداع الذي خالطها واصطبغت به، فيبدأ من تفسير الحروب الصليبية ثم يمر إلى تفريغ التعليم وبعث الانتماء للفرعونية القديمة.  واستعراض تلك الأمور جميعها هو أمر يحتاج لكتاب آخر، لكن الإكتفاء هنا بثلاث نماذج للتوضيح:

 

1-  إبادة الهنود الحمر هو خُلُق الحضارة الأوروبية : فيستعرض جانبًا من التاريخ الدموي للأوروبين بعد وصول "كولمبوس" لأرض الهنود الحمر (أمريكا)، يعمد الكاتب بذلك إلى صفع وكلاء الاستعمار الذين يتولون تجميل صورة الاحتلال القبيحة ويعمدون إلى ذلك التاريخ الدموي=ويخفونه ويا للوقاحه! إنهم يشيرون لتلك الحضارة الدموية بأنها حضارة انسانية عالمية لكنها "حضارة جاءت مبشرة بدين جديد، عقيدته مبنية على البغضاء والحقد والجشع والغدر وسفك الدماء فبعد مجازر الأوروبين للهنود الحمر بلغت أوروبا مبلغًا يزيدها فجورًا وشراهة وسفكًا للدماء وغطرسة وصارت عالمًا مخيفًا مرهوب الجانب"

 

2-  النهضة ورجالها في القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجري:

 هذا الجزء هو إشارة لبداية عصر النهضة عندنا ويلزم الكاتب قارئ الكتاب بتذكر ذلك "فهو الذي يكشف اللثام عن التغرير الفاضح الذي طفحت به حياتنا الأدبية الفاسدة المتهالكة" ، يدور الأستاذ "محمود شاکر" رحمه الله مع خمس من الأئمة على ثغور عدة، ينافح كل منهم عنه ثغره، فيشير الى "عبدالقادر بن عمر البغدادي" الذي كافح ليرد على الأمة قدرتها على التذوق في اللغة والشعر وعلوم العربية، ثم الإمام "محمد بن عبدالوهاب" الذي جاهد البدع والعقائد المخالفة لصفاء التوحيد، ثم "المرتضى الزبيدي" وعمله على بعث التراث اللغوي والدیني وعلوم العربية والإسلام، ثم الإمام "الشوكاني الزیدی" ومنابذته للفرقة والاختلاف بين الفرق بالعصبية، ثم الإمام "حسن بن ابراهيم الجبرتي الكبير" فيقول المؤلف عنه "ملك ناصية الرموز كلها في الهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية حتَّى النجارة والحدادة والسمكرة والتجليد والموازين" ثم ينقل المؤلف نقلًا هاما عن "الجبرتي الكبير"، وهو "عبدالرحمن الجبرتي" المؤرخ الذي يقول عن جده : " حضر اليه طلاب الافرنج 1159هجرية - 1746 ميلادية و قرأوا عليه علم الهندسة.. وذهبوا إلى بلادهم و نشروا بها هذا العلم و اخرجوه من القوة الى الفعل ".

 

عبدالرحمن الجبرتي

ثم يوضح المؤلف أنَّ هؤلاء الافرنج أغلبهم من المستشرقين ولم يكن يعلم الجبرتي بذلك، وأنهم اتوا لفك رموز تلك الحضارة والاعتماد عليها للنهوض ثم شنّوا الحروب الماكرة والحاقدة والتي بدأت ولم تنته حتَّى اليوم.

  قبل ذلك وبعده يدور المؤلف مع الاستشراق والمستشرقین وفضح تلك المناهج ورموزها وتعرية الشواهد التاريخية الناطقة بذلك الحقد الدفين.

3-  المستشرقون واقامتهم الطويلة في دار الإسلام في كل زي:

 يجوب الكاتب مع تاريخ الجبرتي للحملة الفرنسية وإعمالهم سفك الدماء ووأد كل نهضة وتزييف التاريخ والهوية، ثم يشير إلى سيف الاستعمار الحاد وهو الاستشراق وكيف أنَّ المستشرقون تزيّوا في زي طلبة العلم والسائح وغیرهم وکیف أنَذ اخطرهم من لبس زي الإسلام وجاور الازهر ولازم دروس كبار المشايخ وصلى وصام كمسلم لا يرتاب أحد منه ويشير إلى حديث الجبرتي عن المستشرق "فانتور" الذي أقام في دار الإسلام 40 عاما ثم التحق بالفرنسيس بعد مجئ حملتهم وكيف أنَّه كان عالمًا باللغات التركية والعربية والرومية وأصبح مستشارا للجزار "نابليون بونابرت" وأنهم ترجموا الكتب الإسلامية إلى لغاتهم ومما شاهده "الجبرتي" كتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى للقاضي عياض.

 ثم يشير المؤلف إلى أنَّ للمستشرقین دور آخر وقتئذ غير جمع العلوم والمعارف وهو مراقبة الجاليات التي حشدوها وتولوا تغذيتها بالحقد وأحيوا في قلوبها هموم المسيحية الشمالية وتهيئتهم لمعاونة الإحتلال القادم لوأد كل نهضة يلحظوها فيسرقوها.

هذا غيض من فيض من تلك الرسالة الباعثة - لذوى الهمم - على الانتفاض عقلًا وقلبًا وجسدًا للتخلص من غبار التزييف والتضليل وتفريغ القلوب والعقول من هويتها ودينها بشتى الطرق.

هذه الرسالة -وكل أعمال شيخ العربية- جديرة بأن تُقرأ كَوِردٍ ثابت كل فترة لتكون ضابطة لبوصلة النظر للأمور المهمة في حياة الأمة والمساعدة في التعاطي معها بشكل صحيح.