انتمى "عروة" لبني عبس مثلما كان "عنترة بن شداد"، إلَّا أنَّ "عنترة" نشأ عبداً يطمح في مكانة عالية في قومه، لكن كان لـ"عروة" مكانة في سيَر المروءة.

تحت راية الصعاليك | الحلقة الثالثة | عروة.. أمير الصعاليك.

(بقلم/ زيتون)

عروة.. أمير الصعاليك

عندما تقرأ في المقالتين السابقتين؛ فإن أحد التصورات التي يمكن أن تتبادر إلى ذهنك حول مفهوم الصعلكة هو أنَّ المقصود بها هو "الفقر الذى يمتزج بالنفس الثورية المتمردة" إلا أن شخصية اليوم من عالم الصعاليك قد وضع بأفعاله تصور أوسع للصعلكة حتَّى لُقّب بأمير الصعاليك.. الصعاليك في عالمه هم الفقراء والضعفاء فقط، سواء كانوا ذوي نفس تثور أم تستكين.

 اقرأ أيضاً: تحت راية الصعاليك (الحلقة الأولى) | المقدمة

اقرأ أيضاً: تحت راية الصعاليك (الحلقة 2) | أم الشنفري.. صورة درامية

عروة.. التاريخ والنشأة

تشير المصادر التاريخية إلى أنَّ ميلاد "عروة" كان سنة 555 ميلادية بينما كانت وفاته قبل الهجرة النبوية بخمسة عشر عاماً أي سنة 607 هجرية.

 نشأ في دار أصحابها أسياد في أقوامه إلاَّ أنَّه نشأ كريماً متواضعاً ليّن الجناب للضعفاء والمساكين. وكان أبوه "الورد بن زيد" من أثرياء عبس وسفرائها وأحد أهم أسباب حرب داحس والغبراء التي استمرت لسنوات،  وقيل أنَّ "عروة" مات فيها!

انتمى "عروة" لبني عبس مثلما كان "عنترة بن شداد"، إلَّا أنَّ "عنترة" نشأ عبداً يطمح في مكانة عالية في قومه، لكن كان لـ"عروة" مكانة في سيَر المروءة  وصفحات الأدب يعرفها كل مهتم. فقد قال عنه "الحطيئة" لما سُئل عن حال الحرب في الجاهلية: " كنا نأتم في الحرب بشعره". وبلغ الأمر أن مدح "عبدالملك بن مروان" "عروة" في مواضع كثيرة منها قوله: " من قال إن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد".

بصمات عروة

يدرك الكثيرون ممن يتبحّرون في سير أعلام الأدب الجاهلي أنَّ "عروة" كان مختلفاً على أكثر من صعيد، فأما الصعلكة فقد سقنا القول بأن مفهوم صعاليك "عروة" الذين استظلوا بجناحه لم يكونوا الفقراء محبي الثورة وأهل القوة فقط، بل كان كل فقير ضعيف مسكين هو صعلوك في مملكة "عروة".

والمتأمل في أخبار وحكايات "عروة" يعلم أنه كان صاحب مروءة وكرم وسماحة وعطاء تخلو تماماً من التكلّف والتصنّع، بينما على صعيد الأدب والشعر فقد خرج "عروة" بشعره من ثوب البكاء على الديار والوقوف على الأطلال والمقدمات التقليدية للشعر الجاهلي، فكأنك أمام شاعر مجدد يحرص في شعره دوماً على إعلان الانحياز دون خوف إلى جانب الفقراء والمعذبين والمساكين والبائسين والضعفاء.

 فى شعر "عروة" ستجد صورة شبه كاملة مما كان عليه في حياته عملاً وسعياً، في مثال لا أجمل منه في القدوة المجتمعية التي تجسّد ما تقول في عملها.

صور من حياة عروة

أثنى "عبدالملك بن مروان" يوماً على "عروة" قائلاً: ما يسرنى أن أحداً من العرب ولدني ممن يلدني إلا "عروة بن الورد" لقوله:

إني امرؤ عافي إنـائي شـركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحـد

أتهزأ مني أن سمنت وأن تـرى

بجسمي مس الحق والحق جاهد

أفرق جسمي في جسوم كثـيرة

وأحسوا قراح الماء والماء بارد

ففي هذه الأبيات يتحدث "عروة" عن قسمته لما في بيته من الرزق قلّ ذلك أو كثُر مع من يطرق بابه يطلب منه معونه، بينما الرجل البخيل يستأثر بما عنده لنفسه فقط، وأنه إن كان يهزأ الرجل من "عروة" لنحافة جسمه فذلك لسعيه في إكرام الناس وإطعامهم وكفايتهم وأن ذلك مجهد لهم، وأنه يقسم قوت يومه مع من حوله من الصعاليك حتَّى أنَّه يتناول الماء البارد الغير مخلوط بلبن في أيام البرد الشديدة!

أمَّا عن حاله مع الصعاليك فحدّث ولا حرج وإليك صورة مما جاء عنه في بطون كتب التراث الأدبي:

أخبرني الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال حدثني أبو فقعس قال: كان "عروة بن الورد" إذا أصابت الناس سني شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، وكان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم، ومن قوي منهم-إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته-خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمةٍ إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي عروة الصعاليك.

 وصورة أخرى مما جاء عن "عروة"، حينما كانت تلومه زوجته على كثرة الغارات وتعريض نفسه للخطر في سبيل الانقضاض على الأغنياء البخلاء المستبدين في ذلك الوقت ليأتي بكل ذلك ويضعه بين يدي الفقراء والمساكين والصعاليك، فرد "عروة" ذلك اللوم وقال:

أَقِلّي عَلَيَّ اللَومَ يا بِنتَ مُنذِرٍ

 وَنامي وَإِن لَم تَشتَهي النَومَ فَاِسهَري

ذَريني وَنَفسي أُمَّ حَسّانَ إِنَّني

 بِها قَبلَ أَن لا أَملِكَ البَيعَ مُشتَري

 أَحاديثَ تَبقى وَالفَتى غَيرُ خالِدٍ

 إِذا هُوَ أَمسى هامَةً فَوقَ صُيَّرِ

فها هو يطلب من زوجته أن تكف اللوم عنه إن سهرت معه أو يمكنها النوم لتتوقف عن ذلك، ومبيّناً حالته بأنَّ ما يبقى بعد موت الإنسان هو سيرته، فهو يرنو إلى سيرة حميدة حسنة بعد موته.

وقد بقيت سيرتك يا "عروة" حتَّى صرت بحق أمير الصعاليك بأفعال  لا يقوى على القيام بها أرباب الاشتراكية في عصرنا.

وهذه صورة من أعظم ما يُروى عن حياة "عروة" وسبب تصلعكه، حينما تعهد لأحد شيوخ بني عامر التي ناطحت عبس و كانت تعاديها بإحضار ناقتين كفدية لطفلة والإبقاء على حياتها بدلاً من الوأد لأن أسرتها على حال فقر وضعف، وأصابه الحزن الشديد حتَّى نال قسطاً كبيراً من المعايرة على رقة قلبه التي ورثها من أخواله من نهد اليمن في هذه الحادثة، وكذلك معايرة على حادثة سرقة قام بها لإنقاذ هذه الطفلة.

من هنا ساءت الأحوال بينه وبين سادات قومه؛ فقرر أن يجمع مساكين قومه وضعفائهم ومنهكيهم في خيمة عُرفت بخيمة الصعاليك حتَّى يستردوا قوتهم وعافيتهم وبدأ في قيادة أعمال الإغارة معهم.

وفاة عروة

اختلفت الروايات التاريخية في وفاة "عروة"، فقال البعض أنَّ وفاته كانت في حرب داحس والغبراء التي قامت بين بني عبس وبني ذبيان.

وقال البعض الآخر في روايات هي الأقرب للصواب أنه مات في إحدى غاراته بعدما تقدم به السن وفقد شيئاً من تركيزه.

فهذه شذرات من سيرة أمير الصعاليك "عروة بن الورد"، الذي جحده حقه بعض المشبهيّن له بأنه "روبن هود العرب" وهذه منقصة في حق "عروة" لا يقبلها من قرأ حياته وديوانه.

وإلى شخصية أخرى من شخصيات تحت راية الصعاليك.