البداية تشعر معها أنك ترى مشهدا على خشبة المسرح في أجواء مظلمة.. مشهد يريك العالم السري الخفي لدون "فيتو كورليوني"؛ فهو داخل مكتبه يأمر وينهي.

ثلاثيات سينمائية (2) | العراب.. خلطة العمل المتكامل

(بقلم/ سيرجي كوبوروف وعطَّار نيسابور)

مارلون براندو في دور العراب

خلفية عن الفيلم

في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1973م؛ رفض الممثل العالمي "مارلون براندو" استلام التمثال الذهبي الشهير، تعاطفا مع السكان الأصليين لأمريكا (الهنود الحمر)، ومعترضا على طريقة تناول صُنَّاع الدراما والسينما لقضاياهم.

كانت هذه الجائزة واحدة من ثلاث فاز بها فيلم (العراب The Godfather).. أفضل فيلم، وأفضل ممثل رئيسي، وأفضل سيناريو مُقتَبس..

في العام 1969م نُشِرَت رواية (العراب The Godfather) من تأليف الكاتب الأمريكي ذو الأصول الإيطالية "ماريو بوزو"، وقام بتقديمها على شاشة السينما المخرج العالمي "فرانسيس فورد كوبولا"؛ مُقسَّمة على ثلاث أجزاء، تم عرضهم أعوام 1972م و1974م و1990م..

لا نُعطي ثلاثية (العراب) أكثر من حقها إن ذكرنا أنها الأفضل على الإطلاق في تاريخ السينما، فهي تُقارب الكمال بالنسبة إلى كل المقاييس السينمائية..

قيل أنه تم اختيار "كوبولا" لإخراج الفيلم، بعد أن رفض السيناريو اثنا عشر مخرجا قبله.. وقيل أيضا أن مُنتِج الفيلم اختاره لأنه من أصول (إيطالية) تمكِّنه من إضافة عمق طائفي للفيلم.

ورغم رفض "فرانسيس" في البداية لهذا العرض بسبب رؤيته أن رواية "ماريو بوزو" ليست قوية بشكل كاف، ووصفها بأنها (عمل رخيص).. لكنه وافق في النهاية بسبب وضعه المالي الصعب، وضغط عليه أصدقاؤه لقبول إخراج هذا العمل.. فخرج عملا عظيما، استطاع تصدُّر كافة قوائم أفضل الأفلام على مر التاريخ.

اقرأ أيضًا: ثلاثيات سينمائية (1) | سيد الخواتم.. الأب الروحي لعوالم الفانتازيا

قصة الفيلم

القصة تحكي عن حياة أحد زعماء المافيا وأسرته..

دون "فيتو كورليوني" الذي قام بأداء شخصيته الممثلان العظيمان "مارلون براندو" و"روبرت دي نيرو".. وللمفارقة فاز الاثنان بجائزة الأوسكار عن أداء نفس الشخصية؛ "براندو" قام بالتشخيص في مرحلة الشيخوخة، و"دي نيرو" في مرحلة الشباب والصعود..

البداية تشعر معها أنك ترى مشهدا على خشبة المسرح في أجواء مظلمة.. مشهد يريك العالم السري الخفي لدون "فيتو كورليوني"؛ فهو داخل مكتبه يأمر وينهي بإشارات من أصابعه، ويستمع إلى أحد مريديه، ويدير عالم الجريمة.. هذا العالم الذي يتناقض تماما مع ما يحدث في الخارج، في حديقة المنزل؛ حيث يُقام عُرس ابنته تحت ضوء الشمس، وسط الأغاني والرقص والمجاملات العائلية..

"فيتو كورليوني"..

الأب الروحي أو العراب، الذي جاء إلى الولايات المتحدة هاربا – وهو طفل صغير - من بلدته الصغيرة (كورليوني) في جزيرة صقلية، مُبتعدا عن أحد العصابات، والتي تطلب رأس "فيتو" الصغير بعد أن قَتَلَت عائلته بأكملها..

يخوض الطفل حياة شاقة؛ حتى يُصبح شابا كل همّه توفير حياة كريمة لنفسه ولأسرته الصغيرة..

عائلة "فيتو" كانت هي أهم شيء في حياته، فكل أعماله كانت لأجل هذه العائلة، والحفاظ على تماسكها..

تقاطعات كثيرة في مسارات حياة "فيتو" الشاب، حوَّلت تلك الحياة إلى اتجاه الجريمة.. وباستخدام ذكائه وتراكم الخبرات التي اكتسبها.. أصبح هو الأب الروحي أو (العراب The Godfather).

كان لدون فيتو كورليوني" أبناء ثلاثة؛ ورث كل منهم جزءا من صفاته..

"سانتينو – جيمس كان" أخذ الاندفاع والعنف..

"فريدو – جون كازال" أخذ الحنان والطيبة..

"مايكل – آل باتشينو" أخذ الذكاء والدهاء والحكمة..

استخدم المخرج "فرانسيس فورد كوبولا" هذه الشخصيات وتباينها بمنتهى البراعة، فاستطاع إبراز جوانب كل شخصية وصراعاتها النفسية؛ خصوصا شخصيتي "فيتو كورليوني" و"مايكل كورليوني"، فهما محور القصة وأساس حبكة السيناريو في هذه الثلاثية..

"مايكل كورليوني" كان ضابطا في الجيش الأمريكي إبان الحرب العالمية الثانية.. وفي أول مشاهد الفيلم يظهر "مايكل" مُعارضا تماما لنشاطات عائلته الإجرامية، لكنه يقود هذه العائلة، بعد التحول الكبير التي حدث له مع محاولة اغتيال أبيه، ثم تعرُّضه للصفع من أحد ضباط الشرطة الفاسدين.. الأشياء التي أجبرته على تحويل مسار تفكيره، بعدما قرَّر الانتقام لأبيه ولنفسه، فيصبح زعيما للمافيا عن جدارة واستحقاق..

دهاء "مايكل" الشديد ورغباته سيطرا تماما على شخصيته وحكمته، فانتهى به الحال وقد دمَّر عائلته بأكملها، بدلا من الحفاظ عليها كما فعل أبوه من قبل..

اقرأ أيضًا: فيلم The Father | هل يقود جنون أنتوني هوبكنز لفوزه بالأوسكار؟!

عبَّر "فرانسيس فورد كوبولا" عن انهيار العائلة وانفراط عقدها بمشهدين رائعين؛ ففي الجزء الأول يجلس "مايكل" وإخوته وكل أعضاء عائلة دون "فيتو" يتحدثون في مرح أثناء تناول الطعام، وكأنهم شخص واحد..

مايكل وعائلته يتحدثون في مرح كأنهم شخص واحد

لكن في الجزء الثاني، وفي نفس المكان، وبنفس الكادر، وعلى نفس طاولة الطعام؛ يجلس "مايكل" وحيدا يدخِّن سجائره، ويجتر ذكرياته في مشهد رائع يعكس الحال الذي وصلت له العائلة بسبب قرارات زعيمها الصغير..

أبدع "كوبولا" أيضا في الجزء الثاني من الفيلم عندما صوّر لنا خطَّين زمنين مُنفصلين تماما؛ أحدهما يحكي كيفية بناء هذه العائلة بحكمة "فيتو كورليوني" الذي قام بأداء شخصيته الفنان الكبير "روبرت دي نيرو"، والخط الآخر كان يصور "مايكل كورليوني" أو "آل باتشينو" وهو يتسبب في انفراط عقد العائلة بالتدريج، فهو لم يتوان في قتل أخيه "فريدو" وأغلب مساعدي أبيه، وكل رؤوس العائلات التابعة لعائلته..

مايكل كوريلوني وحيدا 

مشاهد كثيرة جدا أظهرت إبداع "فرانسيس فورد كوبولا"، وأظهرت لنا تفوق وموهبة عظماء السينما "مارلون براندو" و"روبرت دي نيرو" و"آل باتشينو" و"جيمس كان" و"روبرت دوفال" و"إيلي والاش"؛ فكان العمل السينمائي الذي تناول جوانب وتفاصيل مخفيَّة في حياة عصابات المافيا، فلم يكن كامل التركيز على العنف والأعمال المشبوهة، بل تناول العمل الجوانب الاجتماعية والعلاقات الأسرية لزعماء المافيا؛ فجعل المشاهد كأنه واحدا منهم، يتواجد في حفلات زفافهم، ويكون حاضرا في غرفهم المظلمة ليتعرف على تفاصيل صفقاتهم؛ بل ويأكل معهم على نفس الطاولة..